العقل أم القلب الدكتوراة! أم كلمة بابا؟
هل هو اضطراب ثنائي القطب؟
السلام عليكم ورحمة الله: أشكركم من كل قلبي لتوفيركم لنا هذا الموقع. أعاني منذ فترة طويلة _منذ عدة سنوات_ تغير سريع بمزاجي وسأوردها على شكل نقاط:
1- أحيانًا أشعر بسعادة كبيرة ويزيد حديثي مع مَنْ هم حولي كثيرًا مع أنني في الغالب قليل الكلام وفي هذه الفترة أكون نشيطًا جدًا في عملي. وأحيانًا أعمل على عدة مواضيع معًا، تكون ثقتي بنفسي كبيرة وقتها وللأسف أحيانًا أتصرف تصرفات أصنفها على أنها "غبية" ولاتليق بي.
2- فترة نشاطي تكون لعدة أيام ثم تبدأ تقل أكثر وأكثر وأبدأ بالدخول في حالة اكتئاب ويستمر اكتئابي بالعادة 10 أيام أو أكثر بقليل، في هذه الفترة أتجنب الحديث مع الناس. لأنني لا أريد أن أؤذيهم بجلافتي وتكون رغبتي في الموت والانتحار عالية جدًا.
3- أحيانًا يتغير مزاجي في نفس اليوم بسرعة كبيرة وأحيانا في نفس الجلسة أشعر بسعادة غامرة وغريبة ثم فجأة أشعر بكرهي لنفسي وكرهي للجلسة وللحياة، وأتوقف عن الحديث.
قرأت قبل فترة عن التأثير السلبي للاكتئاب على الدماغ لذلك لم أعد أسمح لنفسي أن تكتئب لفترة طويلة، عندما أشعر أنني بدأت أمر بأعراض الاكتئاب، أمارس الرياضة. وأستمع للموسيقى وأتمشى بالأماكن الطبيعية. لم أستشر طبيبًا وبصراحة لا أرغب بتناول أي أدوية لأنني أخشى من أن يكون لها تأثير سلبي على أدائي العقلي خصوصًا أنني متخصص بالرياضيات.
ماذا أريد من حضراتكم؟
أتمنى منكم أن تساعدوني على تشخيص حالتي وبعدها تعطونني نصائح عن الخيارات المتاحة أمامي مع العلم أن أهلي وخطيبتي يعانون جدًا من تقلب مزاجي ولا أحب أذيتهم. وأتمنى أن تجيبوا عن سؤالي التالي: إذا بقيت بدون علاج فهل من الممكن أن يتطور وضعي أكثر؟
أنتظر منكم الرد الوافي
ولكم جزيل الشكر
24/9/2015
رد المستشار
شكراً على مراسلتك الموقع.
مقدمة:
الرد على أي استشارة تصل الموقع يتكون من بعدين. البعد الأول: هو البعد الخاص بالمستشير نفسه ويتعلق بشخصيته وظروفه البيئية واستيعابه الفكري للمعاناة التي يمر بها. العلاج الكلامي الذي يتم التوصية به للمريض يكاد يكون خاصاً به ويختلف كثيراً عن نفس العلاج لمريض آخر. حتى العقاقير نفسها يجب تصميم الوصفة الخاصة بالمريض وتقديمها له. العمليتان تتطلب أن يتمعن الطبيب النفسي في خصوصيات المريض ويفكر ويصف وينصح. دون ذلك العلاج مصيره الفشل.
البعد الثاني هو العام: يتم التعليق على الاستشارة من خلال تطبيق القواعد المستخدمة في تشخيص وعلاج الحالة وصياغة الرد بصورة عامة لكي يستفيد جميع القراء والمتابعين للموقع من الاستشارة والرد عليها. بعد هذه المقدمة سيكون الرد عليك أولاً من خلال البعد الثاني وبعد ذلك من خلال البعد الأول الخاص بك.
التشخيص السريري للثنا قطبي:
لكي يتم تشخيص الثنا قطبي سريرًيا لا بد من تثبيت نوبة هوس في التاريخ الطبي للمريض. نوبة الهوس التي تؤدي إلى الدخول والعلاج في المستشفى تقطع الشك باليقين بأن المريض يعاني من هذا الاضطراب. نوبة الهوس لا بد أن تكون مستمرة وبدون انقطاع لفترة زمنية لا تقل عن سبعة أيام (أو 4 أيام في الهوس الطفيف Hypomania). بعبارة أخرى يصل الإنسان إلى القطب المزاجي ويجلس فيه. يدخل القطب فجائيًا ويخرج منه فجائيًا في معظم الحالات وكأن هناك مفتاحًا كهربائياً يحول المريض من قطب إلى آخر.
هناك ميزة يتصف بها جميع المصابين بالثنا قطبي وهي عدم قبولهم بأن حالة الهوس الشديدة أو الطفيفة هي حالة مرضية ويشكون دوماً من اضطهاد الأطباء والأقارب لهم في حالة مزاجية يتصورون أنها طبيعية. هذا ما نسميه غياب البصيرة Lack of insight (المصدر)
بعد دخول المريض إلى القطب الهوسي يزداد اندفاعه ويمتلك طاقة لا يعرف كيف يتعامل معها فتراه لا يحتاج إلى نوم ويتملكه الشعور بالعظمة ويتكلم بدون انقطاع. خير دليل على كثرة الكلام في قطب الهوس هو أن الآخرين لا يستطيعون مقاطعة كلام المريض أو بعبارة أخرى كلامهم لا يقبل التوقف Uninterruptable Speech.
ولكن كل إنسان يمر بحالة من النشاط والحيوية فكيف يتم التمييز بين فترات الحيوية والنشاط الطبيعية من الهوس؟
الجواب على ذلك يكمن في ملاحظة ميل المريض في قطب الهوس إلى عدم القدرة على الكبت Disinhibition أو ما نسميه انخفاض عتبة التثبيط Threshold for inhibition. هذا العامل يؤدي إلى:
٠ التهور في السلوك مع الآخرين وعدم احترام القواعد الأخلاقية.
٠ التهور في السلوك الجنسي.
٠ التبذير المادي.
٠ الميل إلى العنف في التعامل مع مَنْ يقف في طريقه.
٠ التهور في السواقة.
٠ والتهور في دخول مشاريع ركيكة.
هذا السلوك يتفاوت في شدته من مريض إلى آخر ويجب التحري عنه بدقة.
بالطبع السلوك أعلاه يمكن أن يحدث والمريض ليس في قطب الهوس. عند ذاك نسمي المريض بأنه يمتلك شخصية تتميز بتعدد التهور أو متعددة التسرع في السلوك Multi-impulsive Personality. الشخصية الأخيرة تتميز باستعمال عملية دفاعية غير شعورية نسميها الانشقاق Splitting في التعامل مع الآخرين وتضع الناس في قطبين أحدهما مثالي والآخر لا قيمة له ومحتقر. إذا كانت هذه الشخصية تميل إلى كثرة الشعور بالانعزال وتقلب المزاج وتمارس إلحاق الأذى بالنفس والسلوك الانتحاري نسميها شخصية حدية Borderline.
بعبارة أخرى هناك قطبان من المزاج يتنقل فيهما المريض المصاب بالثنا قطبي. وهناك أيضاً قطبان يتم حشر الآخرين والذكريات فيها من قبل الشخصية الحدية.
التمييز بين ما هو هوس وغير هوس في غاية الوضوح سريرياً ولكنه في غاية الغموض جماهيريًا وللطبيب النفساني الذي يحاول الاستجابة لمطالب الجماهير.
الوهم الجماهيري بالثنا قطبي:
تتم استشارة الطبيب النفسي هذه الأيام من قبل أفراد يطالبون بمنحهم تشخيص الثناقطبي أضعاف ما يشاهده من مرضى ابتلاهم الله بهذا الداء. هناك عدة أسباب لتفسير هذه الظاهرة. هناك أولاً الطب النفسي نفسه وتوجيه أصابع الاتهام نحوه بسعيه المستمر لتخفيض عتبة التشخيص. ولكن هناك من يتهمه بالاستجابة لضغوط شركات الأدوية من أجل تعميم المفهوم الجديد وتسويق العقاقير الجديدة المضادة للذهان.
بدأ الإعلام العالمي بترويج الروايات حول إصابة المشاهير من البشر عبر التاريخ بهذا الاضطراب وترى التحليل بعد الآخر لسيرة أديب وموسيقي وعالم. عندما تقرأ هذا المقال تتصور بأن هذا الإنسان المشهور تم الكشف عليه من قبل طبيب نفسي يكتب المقال. معظم الروايات لا تتحمل التدقيق العلمي وتحولت إلى أسطورة وخرافة مغزاها بأن العبقرية جزء لا يتجزأ من اضطراب الثنا قطبي أو بالطبع الأسبرجر. هذه الخرافة لا تشاهدها أو تسمع بها إلا عبر الإعلام ولا وجود لها في الممارسة السريرية.
ولكن لماذا يطلب البعض الحصول على تشخيص اضطراب طبي نفسي يحمل معه وصمة اجتماعية والأشد من ذلك وصمة وراثية؟
السبب في ذلك يكمن بوهام الإنسان بأن الحصول على التشخيص يفسر سبب فشله في مواجهات تحديات المرحلة. يتشعب الوهام ويتصور الإنسان بأن الحصول على التشخيص هو الحل لمشاكله الشخصية والاجتماعية والمهنية. الحقيقة هي العكس تماماً وهي أن التشخيص الطبي النفسي يضيف مشكلة أخرى إلى سلسلة مشاكل الإنسان.
أحد الباحثين عن تشخيص الثنا قطبي هو المصاب باضطراب الشخصية الحدية. لا أحد يرغب في الحصول على هذا التشخيص الذي يحمل معه صفات شخصية مثل المراوغة والاحتيال والعداء للآخرين. علاج الشخصية الحدية صعب للغاية ولا يقوى الطبيب النفسي على القيام به بمفرده وهناك حقيقة طبية تدخل ضمن المحرمات في الطب النفسي وهي: عدم وصف العقاقير لاضطراب الشخصية الحدية. عند ذاك يحصل التحالف بين الطبيب النفسي والمريض. يوهم الطبيب النفسي نفسه بأن اضطراب الشخصية الحدية لا يختلف عن اضطراب الثناقطبي الأول أو الثاني أو الثالث..... إلخ، ولا بد من استعمال العقاقير، والمريض النفسي يتقبل بكل رحابة صدر تشخيص يرتبط بالعبقرية والمشاهير من الناس. تبدأ المسيرة بعدها في طريق طويل يتم تغيير العلاج عند كل محطة للاستراحة حين يراجع المريض مستشاره.
تحليل الاستشارة:
هذه هي استشارتك الثانية.
الطبيب النفساني يدرس كل مريض يراجعه بأنه حالة فريدة وخاصة.
المريض كذلك يستوعب ذاته وحالته بأنها فريدة من نوعها. يتطور هذا الشعور أحياناً إلى تصور الإنسان بأنه شخصية فذة رغم اضطرابه. لا يعني هذا بأن الإنسان يعاني من وهام العظمة ولكنه لا يختلف عن بقية البشر حيث يستعمل التعالي والإحساس بالعظمة بين الحين والآخر بصورة دفاعية غير شعورية.
استشارتك الأولى التي نشرت في ١٣ أبريل عام ٢٠١٤ كانت مختصرة للغاية عن إنسان طموح لم يجد أمامه سوى العلم والإبداع وفجأة يكتشف بأنه في حاجة إلى امرأة وطفل وسماع كلمة بابا. قررت يومها ضرورة التحام الذات بكائن ما، والإنسان لا يبحث عن هذا الكائن إلا حين يشعر بعدم قدرته على تحدي كائن آخر استوطنه نفسيًا ويعذبه أو ضمير بدائي للغاية لم يتطور مع تقدم العمر. هذا الكائن الآخر لا يعلمه المستشار ولا مستشيره. اللجوء إلى هذه الوحدة مع الكائن الجديد قد يكون تأثيرها سحريًا ويتحول الكائن المستوطن القديم إلى كائن حب وتتملك مشاعر الحب الإنسان وينتقل إلى مرحلة جديدة تساعده على التطور الفكري والشخصي والاجتماعي.
كما كانت رسالتك الأولى خالية من الإشارة إلى الحب فكذلك هو الأمر مع هذه الرسالة. تسأل عن حل لتقلب المزاج ولا تريد العلاج بالعقاقير وإلا أثر ذلك على الصفات الفذة الخاصة بك. فشلت تمامًا في إسقاط فعالية الكائن الجديد على عالمك الخارجي وتصميم حياة جديدة لا مكان فيها إلا للحب.
ما تصفه في رسالتك يعاني منه كل بشر. لا توجد إشارة في رسالتك إلى سلوك يتناسب مع حالة هوس وحتى الفترة الزمنية للشعور بالاكتئاب أو الحيوية طبيعية. حالة الاكتئاب التي تشعر بها خالية من وصف يشير إلى استعمال دفاعات نفسية غير شعورية من عقاب الذات والشعور بالذنب وغير ذلك وهذا يولد انطباعاً بأنها نوبات اكتئاب غير مرضية.
لا أعلم ما هي التحديات التي تواجها وقد تجاوزت منتصف العقد الثالث من العمر. ربما حان الوقت للحديث الصريح عن المشاكل التي تواجهها فعلا فوسام الثناقطبي أو غيره من أوسمة الاضطرابات النفسية تزيد الطين بلة.
أعطيتك الرأي بصراحة وربما هناك من الأطباء من لا يقبل هذا الرأي ويمنحك تشخيص الثناقطبي أو شخصية وجدانية أو غيرها ولكن مهمتي أسهل بكثير فأنا أجيب عن رسالة مكتوبة ولكن من ستستشيره سيكشف عليك ولكن ربما صراحته معك ستكون أقل من صراحتي في الكتابة فمهمتي أسهل بكثير.
وفقك الله.
المصادر:Ghaemi S, Stoll S, Pope H(1995). Lack of insight in bipolar disorder: the acute manic episode. J Nerv Ment Dis 183: 464-467