وساوس وقهور العبادات الأخرى ع.س.م.د RCBT الوسواس القهري الديني11
المبطل هنا ليس من وجهة النظر الفقهية وإنما من وجهة نظر المريض أي ما يظنه هو مبطلا. فالمقصود بالمبطلات ليس مبطلات الوضوء، أو الغسل، أو الصلاة، أو الصيام كما هي في الفقه، وإنما هي ما يظنه المريض من مبطلات بغض النظر عن حكمه الفقهي، ونجد هنا لغطا شديدا بسبب اختلاف -وأحيانا تضارب- الفتاوى، أو بسبب عدم استثناء الموسوسين من الأحكام في الفتاوى، كما يمكن أن نضع هنا كل ما يستدعي التكرار أو الإعادة والتي تنتج عن الشك في البطلان، ورغم أن كل الوس.وق. المذكورة هنا إنما تتعلق بالعبادات مثلها مثل وساوس العبادات وكان يمكن أن توصف مع الوضوء مبطلاته ومع الصلاة والصيام وهكذا وهذا رأي صحيح إلا أننا رأينا إفراد خانة تضم المبطلات لأننا وجدنا خواص تجمع بينها فضلا عن كون أغلبها عابرا للعبادات أي لا يفسد عبادة دون عبادة وإنما يفسد الكل بنفس الشكل، وربما لأننا أردنا أن نبرزها لأهميتها وشيوع المعاناة منها.
أولا الشعور بخروج شيء من السبيلين:
خروج شيء من القبل أو الدبر سواء كان ريحا أم سائلا يفسد الطهارة -أو غير ذلك- ويلزم الوضوء منه لاستئناف العبادة، وربما الوسوسة بخروج الريح هي الأشهر سواء بين الأصحاء أو الموسوسين وسأبدأ بشرح ما لدي بشأنها، مع ملاحظة أن التصاحب أو التواكب -المتزامن أو غير المتزامن- شائعٌ بين وسواس خروج الريح ووسواس خروج النقطة.
أ- وسواس خروج الريح: الشك في خروج ريح، أو توهم خروج الريح، ويمكن أن يحدث ذلك أثناء الوضوء أو أثناء الصلاة، وكثيرًا ما يدفع الموسوس إلى إعادة الوضوء أو الخروج من الصلاة لتكرار الوضوء والصلاة، إلا أن أشد المعاناة تأتي من الشعور بضرورة مراقبة الأحاسيس في الشرج مخافة خروج الريح، وكثيرًا ما يتسبب ذلك التركيز في زيادة القلق والاضطراب والتوتر المعوي وإمكانية انتفاخ القولون أكثر، وأحيانا يضطر المريض إلى قبض عضلات منطقة العجان كلها ضمانا لعدم انفلات الريح أثناء الصلاة، ومن صور هذا الوسواس الأقل شيوعا من توسوس بخروج الريح من المهبل أثناء الصلاة
ولأن خروج شيء من السبيلين يوجب الوضوء قبل الصلاة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ. رواه البخاري، فإن الانتباه لخروج الريح وتذكر انتقاض الوضوء بسببه مسألة طبيعية في حياة المسلم نادرا ما تسبب له معاناة أو إعاقة كأنما هي نشاط يستمر فيما نسميه تحت الوعي فإذا حان وقت الوضوء والصلاة طفا إلى الوعي دون إزعاج، لكن مرضى متلازمة القولون المتهيج ومرضى الوسواس القهري يجدون معاناة كبيرة في ممارسة ذلك النشاط كما سنرى، ويعتبر الشك في خروج ريح -والذي غالبا ما يليه تكرار الوضوء- واحدا من أكثر أعراض الوسواس القهري الدينية في المسلمين حدوثا أثناء و/أو بعد الوضوء و/أو أثناء الصلاة (وأحيانا أثناء الطواف بالكعبة المشرفة)، وكانت نسبة حدوثه (72%) في عينة الدراسة المبكرة التي أجريناها على مرضى الوسواس القهري الديني.
وسواس خروج الريح تطور الفهم والتطبيق:
الحقيقة أن الوسوسة بخروج الريح واحدة من الأعراض التي شغلتني شخصيا على المستوى البحثي، فحين قرأت حديث سيد الخلق صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ فِي بَطْنِهِ شَيْئًا فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ أَخَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ أَمْ لاَ؟ فَلاَ يَخْرُجَنَّ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا)). رواه مسلم وأبو داود والترمذي. وفي رواية أخرى )يأتي أحدكم الشيطان في صلاته، حتى ينفخ في مقعدته، فيخيل له أنه قد أحدث ولم يحدث، فإذا وجد ذلك أحدكم فلا ينصرف حتى يسمع صوتا بأذنه، أو يجد ريحا بأنفه)، وفي حديث آخر عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال : ((إِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ وَهُوَ فِي صَلَاتِهِ، فَيَأْخُذُ شَعْرَةً مِنْ دُبُرِهِ، فَيَمُدُّهَا فَيَرَى أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ، فَلَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا)) رواه أحمد واللفظ له وأبو داود، ولفظ أبي داود: ((إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلَمْ يَدْرِ زَادَ أَمْ نَقَصَ، فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ قَاعِدٌ، فَإِذَا أَتَاهُ الشَّيْطَانُ، فَقَالَ: إِنَّكَ قَدْ أَحْدَثْتَ، فَلْيَقُلْ: كَذَبْتَ، إِلَّا مَا وَجَدَ رِيحًا بِأَنْفِهِ، أَوْ صَوْتًا بِأُذُنِهِ)) صدق صلى الله عليه وسلم.... والإشارة كما ترون في الروايات كلها تتعلق بأحاسيس في الجهاز الهضمي من طبيعتها أنها تشكك الإنسان في وضوئه.... وبالتالي فإن الشعور الشرجي في الدبر بخروج الريح قد يعبث به الوسواس ويلبسه عليه فلا يعتد به ولا يعول عليه.
حين قرأت الحديث الشريف كنت أظنه موجها للموسوسين وكان ما فهمته منه أن الأحاسيس الجسدية التي يربطها الإنسان الموسوس عادة بخروج الريح ليست لها الموثوقية الكاملة، وأن الموثوقية تعطى لما هو موضوعي يشترك معه فيه الآخرون (الصوت و/أو الرائحة) وليس لما هو شخصي بحت (أحاسيس الشرج) أي أن المرجعية إنما يجب أن تكونَ لسماع الصوت أو شم الريح -وهو ما قد يشاركك فيه الآخرون-، وليس خبرة حسية تخص صاحبها وحده وبالتالي تصبح عرضة لعبث الوسواس، بل هي من أكثر ما يتدخل فيه الوسواس وبالتالي يحدث التوهم أو التخيل والذي إما أن يكونَ مصدرا أصليا للفكرة التسلطية (أي وسواس خرج ريح) أو يكونُ داعما ومعززا لفكرة تسلطية قَبْلِية (أي شك يوجد دون إحساس ثم إحساسٌ مُعَزز)، ومن المهم أن نبين أن كلامنا هنا إنما يدور حول مشاعر وأحاسيس حقيقية بالنسبة للمريض لكنها علميا أو واقعيا لنقل ليست كذلك، فهي هلاوس حسية جسدية Somatosensory Hallucinations لكنها في هذا المثال (كما في غيره) تحديدا تعمل عمل الوساوس بمعنى أن المرضى يرفضون فكرة أنها ناتجة عن القلق من نقض الوضوء ويصرون على أنها أحاسيس حقيقية وأنها وساوس في نفسها وليست مبنية على الوساوس، وكانت ملاحظتنا هنا أساسا لدراستنا عن الظواهر الحسية في مرضى الوسواس القهري.
ذهبت بعد ذلك إلى الزملاء أساتذة التشريح في كلية الطب لأسأل عن التغذية العصبية أي العصب المسؤول والقطع العصبية المسؤولة عن تلقي الإحساس من الشرج عبر العصب الفرْجي Pudenal Nerve والذي يغذي القطع العجزية الثلاثة (S2,S3,S4) كما تنتقل منها ولها الأحاسيس إلى القشرة المخية عبر المسارات العصبية الصاعدة والنازلة، وهذه القطع العجزية الثلاثة هي نفسها التي تستقبل الأحاسيس القادمة من القبل أي من بطانة المبال عبر نفس العصب، واستنتجت من ذلك أي أن حكما على الشعور بالريح من الدبر يصلح حكما للشعور من القبل بنزول نقطة بول أو مذي!، أي أنه يجوز الحكم قياسا فيما يتعلق بأحاسيس القبل بنفس أحكام الدبر الذي وردت فيه أحاديث نبوية واضحة...
وكانت لد. رفيف الصباغ يرحمها الله إضافة على تحليلي واستنباطي هذا أصرت عليها وهي (رغم منطقية ذلك فإن الحكم الشرعي مرتبط أساسًا بقضية أن (اليقين لا يزول بالشك) سواء كان العصب نفسه أم لا، وسواء شك بانتقاض وضوئه بسبب ما يخرج من السبيلين، أو بسبب آخر من نواقض الوضوء)، كذلك أضافت (والحكم هنا ليس خاصًا بالصوت والريح فقط، بل هو عامٌّ في كل ما يحصل به العلم بحصول الحدث، وفي قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "لاَ يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا". المقصود به إلا أن يعلم يقينًا (100%) بخروج شيء، سواء بالريح أو الصوت أو أي علامة أخرى يمكن أن يعرف بها. ولكن الصوت والريح أبرز ما يعرف به خروج الريح، وهذا الحديث واحد من أحاديث كثيرة استنبط منها العلماء قاعدة (اليقين لا يزول بالشك) وسواء شك بانتقاض وضوئه بسبب ما يخرج من السبيلين، أو بسبب آخر من نواقض الوضوء، بل المراد أن يحصل عنده علم بانتقاض وضوئه بيقين، وإن لم يسمع صوتًا أو يجد ريحًا، فما لم يتيقن فهو على وضوء، مع أنه يحتمل أن يكون قد انتقض وضوؤه في حقيقة الأمر، ولكنه غير مطالب بما لم يتأكد منه؛ قال النووي في شرحه على صحيح مسلم: (معناه: يعلم وجود أحدهما ولا يشترط السماع والشم بإجماع المسلمين. وهذا الحديث أصل من أصول الإسلام وقاعدة عظيمة من قواعد الفقه، وهي أن الأشياء يحكم ببقائها على أصولها حتى يتيقن خلاف ذلك. ولا يضر الشك الطارئ عليها. فمن ذلك مسألة الباب التي ورد فيها الحديث وهي أن من تيقن الطهارة وشك في الحدث حكم ببقائه على الطهارة). فخير ما يقال للموسوس: طالما أنت تشك، فأنت إذن متوضئ (رفيف الصباغ، 2008)>
المراجع:
1. وائل أبو هندي، رفيف الصباغ، محمد شريف سالم ويوسف مسلم (2016) نحو فهم متكامل للوسواس القهري، البابُ الثاني: العلاج السلوكي للوسواس القهري، سلسلة روافد 138 تصدر عن إدارة الثقافة الإسلامية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، دولة الكويت
2- رفيف الصباغ، (2008): تواصل عبر البريد الإليكتروني.
ويتبع>>>>>: وساوس وقهور المبطلات ع.س.م.د RCBT الوسواس القهري الديني13
واقرأ أيضًا:
استشارات عن وساوس الصلاة / استشارات عن وسواس خروج الريح