إغلاق
 

Bookmark and Share

حكايات بنت الفرات: حفلة بمناسبة يوم اليتيم.. ::

الكاتب: بنت الفرات
نشرت على الموقع بتاريخ: 06/04/2005

 

انضممت البارحة إلى مجموعة من الفتيات كنّ قد نظّمن أمر زيارة أحد دور رعاية الأطفال, ذهبت وأنا فرحة لأنني سأقوم بعمل يحبه الله تعالى وهو: إدخال الفرحة على قلوب صغيرة حُرمت من أبسط حقوقها: الوالدان.. وصلت في الموعد المحدد, ولكن أين صديقاتي؟؟ لم يصلن بعد.. وهذه هي عادتنا في ضبط مواعيدنا.. حتى لقد أصبح التأخر عن الموعد إلى أكثر من 45 دقيقة أمراً اعتياديا!!

استثمرت وقتي في الانتظار بتجاذب أطراف الحديث مع السيدة المسئولة عن إدارة الدار.. تبين لي من خلال الحديث معها أن الأمور المادية للأطفال مكفولة ومحققة, فهم يدرسون شتاء ويلتحقون بدورات ذات نشاطات مختلفة صيفا..

وأخيراً اكتمل عدد المجموعة التي جئت بمعيتهن وذلك بعد انتظار دام قرابة الساعة.. وبدأنا بالتجهيز للحفلة التي اتُفق على إقامتها للأطفال, فهذه الزيارة الهدف منها إمضاء وقت ممتع مع الأطفال, ولكنني أستطيع أن أقول أننا فشلنا في تحقيق ما أردناه! لماذا؟

لأن مخطط الحفلة لم يسر كما ينبغي, وهذا بسبب: أننا غرباء عن هؤلاء الأطفال.. طبعا ظروف الطقس لعبت دورها هي الأخرى إذ أنها حرمتنا من الخروج إلى الساحة للعب مع الأطفال كما هو مخطط فالأمطار الغزيرة لم تتوقف منذ الليلة التي سبقت هذه الزيارة.. فكانت أنشطتنا داخل الغرفة الكبيرة التي يسمونها المطعم..

وزعنا على الأطفال الحلوى والطعام, ثم أخذت زميلتي تقص عليهم القصة المقررة, ثم أجرينا لهم مسابقات, وفي النهاية وبعد فوز الجميع وزّعنا عليهم الهدايا.. هذا بالنسبة للأطفال الذين هم في المرحلة الابتدائية, أما الأصغر سناً, أي الذين أعمارهم من الخامسة فما دون, فكل ما فعلناه أننا وزعنا عليهم الطعام والحلويات بمعونة المشرفات المسئولات عليهم..

ولكن.. هل هذا ما يحتاجه هؤلاء الأطفال؟ طعام وشراب وألعاب؟
كل هذا لن يكون له طعم ولم يكن له فعلاً- ولن يؤتي ثماره لأنه خالٍ من أهم شيء وهو: التفاعل الإنساني.. لدى كل مشرفة عشرة أو عشرين طفلا مسئولة عنهم, تطعمهم وتسقيهم وتغير ثيابهم ووو, وهذه المشرفة لا تبقى معهم ليل نهار, بل لها وقت دوام محدد, تنصرف في نهايته لتأتي أخرى فتحل مكانها.. صحيح أن الأطفال ينادونها بـ: ماما, ولكن أين هذه الرابطة الأمومية الحقيقية بينها وبين الأطفال..؟!؟!

عندما كنت أوزع السندويش على الصغار من فئة ما دون الخمس سنوات, فرحوا كثيرا, ولكن يبدو أن بعضا منهم لم يعجبهم الطعام لأنهم وجدوا فيه شيئاً ما -حارّ- المذاق, ولولا أنني كنت موجودة لأجبرتهم المشرفة على أكله, ولكنني سمحت لهم أن يزيلوا هذه القطع المنكّهة الحارة من السندويش, طفلين أعادا السندويش بعد أن تذوقاها ولم تعجبهما, ولكن المشرفة أجبرتهما بودّ لا أدري أهي كذلك معهم دائما أم أمامي فقط على أكلها.. أن تجعل الطفل يأكل شيئاً لا يحبه ولا يستسيغه لهو قطعة من العذاب.. قد يكون رفضهم للطعام فيه نوع من استجلاب الاهتمام منا, ولكن هل كانوا سيفعلون ذلك لولا أنهم يشعرون بالإهمال العاطفي فعلا؟

بعد أن انتهتورشة الأكل, والتي رغّبنا فيها الأطفال بالطعام عن طريق أنهم إن أكلوا فهناك هدية لكل واحد منهم, أخذ كل من أنهى طعامه يتباهى أمامي ويقول: أنا أنهيت طعامي, أين الهدية؟؟

ولكن منهم من اقترب مني كثيرا والتصق بي يحضنني وبما أنني ضخمة جداً بالنسبة لأجسادهم الصغيرة فلم تصل يداه حين حضنني إلى أعلى من ركبتيّ!! ألم أقل لكم؟؟ إنهم يحتاجون جسداً حياً يستمدون منه الدفء لقلوبهم الصغيرة التي جمّدها زمهرير الحرمان..

وهناك طفلة وقفت تنظر إلي بشوق يشوبه الحذر ولك أن تتخيل شكلها وهي صغيرة أمامي وأنا أبدو لها كعملاق كبير ثم اقتربت ببطء وقالت: "أعطني بوسة".. فأعطيتها, ثم طلبت مني أن أقبلها, فقبلتها, وحين ذلك تجرأ أطفال آخرون على طلب القبل, فأعطيتهم.. أحسست بمدى الحرمان الذي يعيشونه.. ولكن الحمد لله أنني أمسكت نفسي عن البكاء أمامهم.. ولولا أنني شغلت نفسي بإحضار المزيد من الطعام لهم, لحصل المحذور ولرأوا دموعي..

ولكنني لم أستطع أن أمسك هذه الدموع حين دخلت غرفة "الرّضّع" الذين تقل أعمارهم عن التسعة أشهر, بل إن منهم من هو حديث الولادة جدا, ابن يومين أو ثلاثة..
إنها أشبه بغرفة الأطفال في مشفى التوليد, ولكن الفرق شاسع, فهناك يوجد أبوان سعيدان بهذا الطفل بل ربما يبكيان فرحاً لأن الله قد منّ عليهما أخيراً وبعد طووووووول انتظار
به.. وهنا لا أحد يهتم سوى المشرفة المسئولة عنهم, وبعض الناس من محبي الخير..

هناك يتلهف الناس من أقرباء الوالدان على رؤية الطفل, وما أن يقترب منهم حتى تعلو الفرحة وجوه الكبار والصغار وتتشوق العيون لتكحتل برؤية هذا القادم الجديد من عند الله, أما هنا فلا يكاد هذا الصغير يحظى بلفتة اهتمام أو فرح, بل الكل ينظر له في أحسن الأحوال- على أنه مأساة.. هناك يرقد الطفل في مهده كالملاك يحلم بالغد المشرق بين أبوين يحبانه ويبذلان حياتهما ليحيا, ويشقيان ليسعد.. وهنا, أيضا يرقد الطفل في مهده ولكن مغمضاً عينيه عمّا يلوح له من مستقبل غامض تتقاذفه أمواجه العاتية.. كثيراً ما سمعت الشتائم من صديقاتي على آباء وأمهات هؤلاء الأطفال, وأقل ما هنالك دعاء عليهم بعدم التوفيق!!

ولكن, هل حقاً آباء وأمهات هؤلاء الأطفال وهذا ملجأ للقطاء لا للأيتام هم وحدهم المجرمون بحقهم؟؟
نعم, أخطئوا, ولكن الأكثر خطأً منهم والأكثر وحشية هو المجتمع المحيط بهم, فلو أن المجتمع كان يقبل أفراده المخطئين إذا تابوا وأرادوا الإقلاع عن خطئهم ومتابعة حياتهم كسائر خلق الله, لما اضطر المخطئ إلى طمس آثار خطيئته التي تكون في حالتنا هذه: طفل يُلقى قرب حاوية "الزبالة"..

نعم, المجرم الحقيقي بحق هؤلاء الأطفال هو: المجتمع الذي قرر لفظ أبنائه حين يخطئون.. وهذا تماما ما أراد الله عز وجل أن يحمي منه مجتمع الصحابة, ذلك المجتمع الرائع بكل المقاييس والأبعاد, كنت فيما مضى أظنه المجتمع الفاضل لأنه طاهر من الأخطاء, فمجتمع الصحابة هو أقل المجتمعات خطأً وأكثرها صواباً, بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم, ثم الذين يلونهم...", ولكنني كنت مخطئة, هم فعلا خير الناس, ولكن ليس لأنهم لا يرتكبون الأخطاء, فقد وجدت في مجتمعهم كل أنواع الأخطاء بما فيها الزنا, ولكنهم كانوا خير القرون من حيث استيعابهم لمبادئ شرع الله عز وجل وتطبيقها وتمكينها من نفوسهم أولا, ثم من حياتهم الواقعية ثانيا..

ولا أظن أن حكاية تلك المرأة الغامدية التي وقعت في مثل هذه الخطيئة بخافية علينا جميعا, هذه القصة التي بهرتني فيها إرادة التوبة في هذه الصحابية رضي الله عنها, وبهرني موقف رسول الله الإنساني من تلك المرأة الخاطئة, وموقف الصحابة من ثمرة خطيئتها: طفلها.. والذي يبتعد الناس في زمننا عن أمثاله بزعم أنه "ابن حرام".. بل إنني أعرف أناساً يقرفون ويشمئزون من مجرد لمس هؤلاء اللقطاء لأنهم يعتقدون أنهم رجس, أليسوا "أولاد حرام"؟؟!!!

القصة: جاءت الغامدية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتعترف بأنها زنت, فلم يعد يحتمل ضميرها عبء إحساسها بفداحة الذنب الذي ارتكبته, فأرادت أن تتطهر من خطيئتها بأن ينفّذ فيها رسول الله العقوبة التي قررها رب العالمين, والتي لمن هي في مثل حالتها "الرجم حتى الموت".. ولكن رسول الرحمة أبى أن يوقع العقوبة إلا على المرأة فقط, أبى أن يشرك طفلها معها بأن يحرمه من أمه, فلم يطبق الحد إلا بعد أن انتهت فترة رضاعة الصغير وهي عامين كاملين.. ثم أبى إلا أن يكفل مستقبل هذا الصغير, فأخذ بيده وقال في جمع الصحابة: من يكفل هذا الصبي وهو رفيقي في الجنة؟؟ فتسارع الناس إلى اغتنام هذه الفرصة الذهبية, فلم يعد مكان هذا الطفل "الأزقة والحواري" بل أصبح مكانه في "صدر بيوت الصحابة".. أليسمن نسميه في وقتنا الآن "ابن الحرام" –هو طريقهم إلى الجنة؟؟

لو أننا وعينا الأمور كوعي الصحابة, ونفذناها كتنفيذ الصحابة, لما وجدنا أنفسنا بحاجة إلى إيجاد دور لرعاية هؤلاء اللقطاء, لأنه حينها لن يكون هناك أصلاً أيّ لقطاء!!
ولكننا نأبى إلا أن نسير على خطىً أسلافنا في اضطهاد المخطئين ولفظهم من بيننا, وإذا ما سُئلنا عن السبب كأني بنا نقول كما قال من لا تسرنا خاتمتهم "إنّا وجدنا آباءنا على أمّة وإنّا على آثارهم مهرعون"..

اتصلت بي ابنة أختي 18 سنة وهي مذهولة من ما فعله "أحمد الفيشاوي" الذي ملأت قصته أسماع الناس وأبصارهم.. كل اعتراضها هو على نوعية الخطيئة التي ارتكبها وهو الذي يعد من الشباب المتدين, خصوصا أنه يشترك في تقديم برنامج ذا شكل شبابي ومضمون ديني, لم تستطع الفتاة أن تستوعب أن كل الأخطاء لها نفس القيمة: شرب الخمر كالزنى كشرب السيجارة, كلها عصيان لله تعالى من ناحية الدين, ولكننا نحن في المجتمع نضخّم بعضاً منها ونقلل من شأن البعض الآخر.. كل ما يمسّ الشرف هو فقط ما نعتبره أخطاء فنلعنها ونلعن فاعليها.. والأمر ليس كذلك..

تأتي علي أحايين كثيرة أحمد الله على أن الله تعالى موجود بصفاته هو, وكما هو.. سبحانه وتعالى.. فوالله لو أن الله تعالى سيحاسبنا يوم القيامة وفقاً لمقاييسنا نحن لهلكنا جميعاً..

اقرأ أيضاً على مجانين:
حكايات بنت الفرات: في مدرسة القرية
حكايات بنت الفرات: مدارس ماريا
حكايات بنت الفرات: وقفة على أطلال بيت جدي
حكايات بنت الفرات: جيش التحرير أم جيش التدمير..
حكايات بنت الفرات: مواقف مؤثرة
حكايات بنت الفرات: وظائف إنسانية شاغرة



الكاتب: بنت الفرات
نشرت على الموقع بتاريخ: 06/04/2005