إغلاق
 

Bookmark and Share

الطريق إلى غزة.. عندما تسللت إلى وطني ::

الكاتب:  زينات أبو شاويش 
نشرت على الموقع بتاريخ: 24/09/2005

لم يمنعها تقدم العمر من لقاء نصف العائلة الغائب على الجانب الآخر

للوطن نكهة خاصة لا يتذوقها إلا من عاش غصة الإبعاد منه مثلي. وللحرية مذاق لا يتحسسها إلا من ذاق مرارة الأسر. وفلسطين ليست وطنا عاديا فهي أمة في وطن ووطن في أمة، وحبنا لها عشق يتوسد القلوب والمآقي. وفلسطين الأمة تحمل فلسفة الأمل والألم والبقاء، فيحتل حبها كل دواخلنا النفسية والعقدية والإنسانية.

مهما ارتوينا من هذا الحب حتى الثمالة فلن نشبع منه أبدا، وكلما تجرعنا كؤوس الحرمان في الابتعاد عنها ازددنا ولها وعشقا وهياما إلى ثراها الطاهر. فلسطين تسكن ذواتنا دون أن نسكنها.

خمس سنوات مُنعت فيها من العودة إلى أسرتي وأهلي ووطني، خمس سنوات مرت بحلوها ومرها لم أنس فيها نكهة الوطن الغائب لم يغب عن عيني، اشتقت إلى كل شيء فيه؛ وجه أمي وإخوتي، ثرى غزة، وجوه الناس، ضحكاتهم، أزقة الشوارع، طعام أمي وصراخ أبناء إخوتي، كل شيء وأي شيء هناك يعني الكثير بالنسبة للغريب عن وطنه.

انتفاضة إنسانية

وبعد سقوط آلاف الشهداء وعشرات الآلاف من الجرحى، يخرج المحتل مدحورا، وتفرغ الكيبوتزات الاستيطانية من الاحتلال، 38 عاما عاش فيها أهل قطاع غزة في سجن كبير لا يسمح لهم بلقاء ذويهم على الطرف الآخر سواء المصري من الجنوب باتجاه رفح، أو الشرقي باتجاه الضفة الغربية.

تقطعت في تلك المدة أواصر الأسر الفلسطينية ومُزق شملها، وأصبح الجسد الفلسطيني يئن مما ألم به من عذابات الاحتلال، وما إن خرج المستوطنون من قطاع غزة حتى حدثت انتفاضة إنسانية هرع خلالها الشعب الفلسطيني إلى كسر حواجز القهر الاحتلالي وعبروا الحدود ما بين رفح المصرية ورفح الفلسطينية فحدث تخصيب للمشاعر الممتدة بين الشعبين المصري والفلسطيني، وأعلنوا للعالم كله أنه شعب واحد لا شعبان، أمة واحدة لا أمتان، فكانت بارقة الأمل في لقاء أهلي وأسرتي حتى ولو عن طريق التسلل إلى وطني وقد كان.

معجزة اللقاء.. إنها أمي

سيدة فلسطينية مثل ملايين الأمهات الفلسطينيات، ترى في ملامحها كل تقاسيم الحب والود والعطاء، كانت تدرب النساء في عام 1967 على حمل السلاح، ذات باع طويل مثل كل سيدات فلسطين في النضال، قوية الشكيمة، منطقية الحجة، باسمة الثغر، وفية الوعد، بسيطة في كل شيء، ليست صاحبة رؤى معرفية أو مقاربات فكرية، أو حتى اتجاهات أيدلوجية.

سيدة جميلة في عشقها لوطنها، ولأمتها، ولدينها، وفية لزوجها وأبنائها، تتلفّح بثوب الإخلاص، وجهها النوراني يجعلك تصدق كل ما تقول.. إنها أمي.

مع بزوغ الفجر أخبر أخي والدتي أنه يمكن أن يتسللوا عبر ثغور في مدينة رفح حتى يصلوا لمدينة العريش وهناك يسهل مقابلة ابنتهم التي حرمهم الاحتلال من لقائها طيلة خمس سنوات، اتصلوا بي في الخامسة صباحا، فشددت الرحال إلى العريش وانتظرتهم هناك.

تحدت أمي كل عوامل الضعف التي تملكت صحتها، وقهرت عامل الزمن الذي أجهدها فتسلقت الأسوار برغم معاناتها الصحية، وتجاوز اشتياقها لابنتها كل المسافات المتعثرة، وهناك في مدينة العريش كان انتظاري لها ولأخي نمر، ويا لصعوبة دقائق الانتظار، أصعب لحظات حياتي، لم يأتوا بعد، انقطع الهاتف بيني وبينهم، وإخوتي في غزة لا يعرفون شيئا، ولا أريد أن أسبب لهم قلقا، رفعت رأسي للسماء أسأل الله لهم السلامة وأن يجمعني بهم، ما هي إلا لحظات حتى رن جوالي وإذا بنمر أخي: وينك زينة؟ أنا في موقف السيارات يا عمري وأنا كمان بالموقف، فما إن استدرت حتى وجدته طائرا نحوي هو وأمي يصرخون.. زينة.

تعانقنا فمزقت أصوات صرخاتنا كل سياط الاحتلال المسلطة على رقابنا، عشنا حالة من الذوبان، والشوق، فتسمرت أقدامنا فلم نستطع الحراك، وبكينا حتى أشهدنا السماء على حبنا، وسجدنا جميعا شكرا لله عز وجل، أخيرا يا زينة ربنا استجاب لدعائي و"شُفْتِك"، الآن أموت وأنا "مطمنة" عليك.. لا تقولي هكذا يا أمي فسوف أعود إن شاء الله إليكم وأعيش بينكم، هانت يا أمي.. لكن الثمن "غالي" يا زينة، شهداء ودماء وجرحي ودمار وغربة ووو...، هذا هو ثمن الحرية يا والدتي أنسيتِ كلامك لنا "إن للأوطان ضريبة لا بد من أن نسددها"، هل تريدين أن نتهرب من ضريبة حب الوطن أنسيت يا أمي؟.

نظرت إلى تقاسيم وجه أخي نمر الذي أصيب في الانتفاضة وأجريت له ما يزيد عن 20 عملية جراحية صادق فيها الموت، وعرف قيمة الوطن، ودفع الضريبة المؤجلة لوطننا، وبرغم كل ذلك عبر الحدود متعاليا على كل جراحه لكي نلتقي هناك.. وقد كان.

دائرة التفاوض

فلسطينيون يعبرون إلى الجانب المصري من رفح

في دراستنا الأكاديمية لماهية التفاوض، وآلياته يجب أن يستعد المفاوض لمواجهة كافة الأنماط البشرية المتنوعة، ذات الدلالات المتباينة، ويتوقف ذلك على محددات كثيرة يحسمها عاملا الزمان والمكان والحدث ذاته، ولكن التفاوض مع أمي تنهار معه كل الأسس الدراسية، فتبدأ فلسفة الصمت أمام سياج شخصيتها القوية، وبصيرتها النافذة، وإيمانها الوقاد.. اقترحت والدتي أن نبقى سويا في العريش حتى الصباح، في أي فندق، ثم أعود أنا للقاهرة ويعودون هم لغزة.. ولكن هيهات، لم يتمكنا من إقناعي، فقد استخرت الله، وقررت دخول غزة.

صرخ أخي: كيف ستعبرين الحوائط الإسمنتية والأسلاك؟ كيف تتسلقين الحائط الحديدي؟!.

قلت: وكيف تسلقت أمي ذلك وقد قاربت الستين من عمرها؟.

قال: أنا حملتها.

قلت: إذن احملني أنا كمان "شو" المشكلة.

رد: نخشى عليك الدخول بطريقة غير قانونية، نخشى أن يعرضك هذا للضرر.

قلت: أي قانون هذا الذي يمنعني من العودة إلى وطني، أو حتى زيارته، أي قانون هذا إلى يحرمني من زيارة أهلي؟!.

قال: إنه قانون الغابة، قانون المحتل، قانون القوى المستأسدة.

قلت: فليكن قانون الغابة.

قال: لذلك ستعودين، نخشى عليك من حيوانات الغابة.

قلت بإصرار: لن أعود وسوف أدخل معكم، وأتسلق الحوائط مثل أمي، وأسجد لله شكرا على تراب غزة، وأرى إخوتي.

حسمت أمي الأمر، ونظرت إلينا، وقالت: إذن هيا بنا نأخذ سيارة.

لا تتعدى المسافة من العريش لرفح نصف ساعة ولكن لأننا ندخل عبر طرق التفافية وصل الوقت إلى ما يقرب من ساعتين ونصف، وبدأنا رحلة التسلق عبر الأسوار، وفي لحظة أصبحنا في رفح الفلسطينية.. تساءلت: من المسئول عن تمزيق هذا الجسد؟! مجرد حائط إسمنتي يمزق أحلاما ويكرس عذابات ويفتت جسد أمة.

وأخذنا سيارة رفح للمنزل بالمغازي، الطريق يحتاج 25 دقيقة، ولكن بسبب الكتل البشرية وازدحام السيارات اجتزنا الطريق في 4 ساعات حتى وصلنا إلى دارنا، ويا له من إحساس فياض أن تشعر أنك في بيتك وبين أسرتك، لن تكفيني كلمات الدنيا لوصف هذا الإحساس.

عرس لم يكتمل ولكن.. يبقى الأمل

وصلنا للمنزل الساعة العاشرة مساء، وهنا كانت المفاجأة.. حالة من الهلع غير الطبيعي.. أختي زينة، "عمتو" زينة.. إخوتي وزوجات إخوتي وأولادهم وبناتهم اختلطت أصوات الصراخ مع البكاء مع الزغاريد والتساؤلات في آن واحد.

وهنا بدأت عمليات التفاوض مرة ثانية التي كادت تمزق مشاعري، فبرغم براءة الأسئلة من بنات وأبناء إخوتي فإنها كانت تقتلني.

شيماء بنت أخي نمر: "ما ترجعي مصر يا عمتو تاني، بدنا إياكي معنا هون، البابا هيشتري إلك كل الأواعي" (الملابس).

ترد زينات بنت أخي محمد: "وبابا كمان هيشتري إلك يا عمتو كتب وإشياءات وتروحي عالجامعة".

يقاطعهم أحمد ابن أخي حمودة في منافسة شديدة للإقناع: "وبابا هيشتري إلك سيارة حديثة".

اختزلوا كل محنتي في ماديات يستطيعون توفيرها، فما زالوا صغارا، لن يستوعبوا أنني ممنوعة من وطني لأنني "لاجئة"، ويوجد ملايين غيري يعيشون نفس معاناتي ولا يسمح لهم بالدخول إلا بتصريح من قوات الاحتلال الإسرائيلي.

في لحظات أحضروا العشاء، واتفقنا على أن أبقى عدة أيام، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، حيث أعلن قائد المنطقة الجنوبية في غزة أنه على كل من دخل إلى غزة أن يخرج منها قبل الساعة السادسة مساء الغد.

توجمت الوجوه، ونظرت إليّ أمي في هلع وأصدرت فرمانها وبدون أدنى مناقشة: ستبقي معنا حتى الفجر، ونصلي ثم نذهب جميعا لتوصيلك لرفح المصرية.. ولكن يا أمي أي منطق هذا.. منطق الخوف عليك حبيبتي. رفضت قرارها بشدة، ولكن هذه المرة كانت حجتها أقوى.

وهنا أعلن الصغار الإضراب عن النوم، وبقوا مستيقظين حتى الفجر، وبدأت موجة من البكاء للجميع، ولكن كانت عيون أمي تقول: سنلتقي يا ابنتي حتما، لا تتذكري لحظات الوداع، تذكري دائما قدرة الله عز وجل في لقائنا بغير ميعاد.. وهنا لن أكتب عن لحظات الوداع؛ لأننا سنلتقي حتما ولو بعد حين.. فإلى لقاء قريب يا وطني..

إلى أمي..

لإن ضاقت بها الدنيا

وكرهت كل ما فيها

سأنسج من شراييني

لها حضنا يدفيها

لإن رفضت لباس الأرض

ثوبا كي يواريها

سأنسج من رموش العين

لها ثوبا ليحميها

نظرت لعينها يوما

لأفهم سر ما فيها

لكن الدمع جاوبني

دع العين بما فيها

دع العين بما فيها 

اقرأ أيضا:



الكاتب:  زينات أبو شاويش 
نشرت على الموقع بتاريخ: 24/09/2005