إغلاق
 

Bookmark and Share

حنين وطن، وأحزان ::

الكاتب: أحمد الكناني
نشرت على الموقع بتاريخ: 13/11/2005


بعد العاشرة ليلاً، انتهت أعمالنا وهنأ بعضنا بسلامتنا بسبب كثرة عمليات السطو و القتل على المحال التجارية، وتحدث كلاً منا عن عمله بالمتجر الذي يديره و نحن ماضون لتمرين رفع الحديد بالصالة، و ما إن ننتهي بعد ساعتين حتى نسبح و نستحم، لنمضي لمقهى عربي اسمه "ياسمين" لتدخين النارجيلة. أتصل بوالدتي لأطمئنها أنني بخير، فتمضي لنومها (حفظها الله لي) لتستيقظ فور فتحي للباب و تحاول أن تعد الطعام، رغم قسمي لها بأنني أكاد أنفجر شبعًا. "أكل المطاعم ميشبّع يمّه" هكذا تقول.

أربعة نحن، رجالاً من ثلاث دول عربية، اجتمعنا بمقهى عربي في مدينة بالجنوب الأمريكي لنستمع لأم كلثوم و كلاً منا يتذكر شيئًا، أما القاسم المشترك فهو دخان النراجيل الذي يتصاعد من صدورنا بهدوء و أفكار ضائعة. أسمع أم كلثوم تنشد بأغنية "فات المعاد":

ياما كنت أتمنى أقابلك بابتسامة
أو بنظرة حب أو كلمة ملامة

بس أنا نسيت الابتسامة زي ما نسيت الألم
و الزمن بينسي فرح و حزن ياما

إن كان على الحب القديم
إن كان على الجرح الأليم

ستاير النسيان
نزلت بقالها زمان

و إن كان على الحب الأليم و أساه
أنا نسيتو أنا، يا ريت أنتا كمان تنساه

تفيد بإيه يا ندم يا ندم و تعمل إيه يا عتاب
طالت ليالي الألم و تفرقوا الأحباب

و يصفق الجمهور بعنف و حرارة، ويهتف رامي (المصري) محيّيا كوكب الشرق، بينما يرمقني فادي بعينيه السوريتين ليرى ضياعي مع اللحن و الماضي، و يبدأ بمهاجمة ذكرى المرأة، متحديًا سكون عمرو الذي عاد لتذكر "ريم" التي تحدث عنها حتى حفظنا كل قصتهما معا. أهتف الله .. الله عندما يبدأ مطلع الجزء الثاني من الأغنية، بينما يسحب فادي (و هو المدخن الوحيد فعلاً بيننا) الدخان بلؤم و يشتم ذكرى المرأة: النساء ضعفٌ يا بقر. فادي لم يحب قبلاً، لذا هو لا يعرف مرارة الذكرى، و لكنه كان يحسدنا بأعماقه. قلت له، و أنا أخاطب الآخرَين من خلاله:

فكر، واترك السعال يأخذ حقه منك، فأجمل ما يمكن فعله هو تحدي الواقع والعودة للماضي لاختطاف الحبيبة، حملها بين الذراعين وتمزيق شفتيها بقبلة حارة و عميقة و شديدة الثقل، حتى أنك لتفرغ روحك بداخلها عبر شفتيها. اختطفها واحتقر كل التقاليد، فهم أخذوها عنك كزوجة لغيرك، فهل يسلبونك الحلم البسيط بها؟ خذها لمكان جميل و تمسّك بيدها كي لا تغيب عنك لحظة، وحدثها عن كل شيء كأنك طفل، وكل بضعة ثواني ضمها لصدرك كي تتأكد أنها معك فعلاً و أنها لم تغب. حدثها أن العالم كله يفيض روعة بسببها، و أنك لن تتركها إلا جثة. تأمل قميصها الرقيق الذي يكشف عن ذراعيها، بتنورتها الطويلة المغرية، و بحذائها المربوط حتى كاحليها. شعرها معقود لخلف أذنيها، و عنقها يلتمع تحت القمر، لتضيف عليه قلادتها الفضية لمعة زرقاء تنعكس كمصباحين فوق عينيها الواسعتين. عش معها كما تريد، أفعل ما شئت، فلا قانون و لا دين و لا تقاليد و لا جهنم نفسها تمنعك -أو يجب- من أن تحب حبيبتك بحلُمك.

أعد الماضي السعيد بأدق تفاصيله، رتبه، نمقه، ثم عشه من جديد مع رشفات النارجيلة و تبسم كأبله عندما تذكر محاورة حُلوة بينكما، أو مشاكسة و مناغشة تنتهي برغبة عميقة لكليكما بالعناق. عش حياتك كما تريد، لا كما يريد لك الزمن لأنه لا يخبئ سوى الألم.
وهنا تصدح كوكب الشرق:

الليل و دقة الساعات
تصحي الليل

الليـــل الليــل
و حرقة الآهات بعزّ الليل

و قسوة التنهيد
والوحدة و التسهيد

لسه ماهماش بعيد

و عايزنا نرجع زي زمان
قل للزمان إرجع يا زمان

و هاتلي قلب لا ذاب و لا حب
و لا أنجرح و لا شاف حرمان

تفيد بإيه يا ندم
و تعمل إيه يعتاب

و تدور الكرة الأرضية بلامبالاة بسهرتنا العزباء المريرة، أما نحن فصامتين و الدخان يخفينا كأنه زوبعة مشحونة بالأحزان و الذكريات ومحادثات قصيرة و عصبية؛ لغة طيور مهاجرة، تنظر إلى الشرق، إلى حبيبات جميلات، إلى مدارس هجرناها، إلى ذكريات أنهى الزمن كل ما يمت لها بأرض الواقع. كلما ذكرنا مبنى أو معلم بمدينة، يجيب الآخر: لقد هدموه، لقد رمموه، لقد أحترق، فجرته قذيفة.. الخ.. الخ. كأن الوطن لا يحرمنا من الحب، و إنما يحرمنا من ذكرياتنا الأخرى حتى. أخيرا تختتم أم كلثوم أغنيتها ليلتنا بصوتها الحنان:

من ناري من طول لياليّا
و فرحــة العُزّال فيّا

من قسوتك
وانت حبيبي
و قسوة الدنيا عليّا

بيني و بينك هجر و غدر
و جرح بقلبي جنيــتو ... آه (كم أحب آهتها الصادقة)

بيني و بينك ليل و فراق
و طريق إنت اللي بديتو
تفيد بإيــه يا ندم يا ندم
و تعمل إيــة ياعتاب

و تستمر الأغنية حتى النهاية القليلة من إعادة المطلع الحزين، ولننهض ونعد أنفسنا بجلسة حزينة أخرى

 للتواصل:
 
maganin@maganin.com



الكاتب: أحمد الكناني
نشرت على الموقع بتاريخ: 13/11/2005