إغلاق
 

Bookmark and Share

حكايات صفية : فليتك تحلو والحياة لذيذة .. ::

الكاتب: صفية الجفري
نشرت على الموقع بتاريخ: 19/02/2005

 

الشجاعة لنسعد..

في ركن مهمل من سوق شعبي قد.. كانت تقف.. بشموخها وكبريائها وجمالها الذاوي.. وفوضويتها الموحية.. مكتبة صغيرة أحنى الدهر عليها بصروفه.. ليبقى عزها بما تحويه من قيم الكتب.. تناولت كتابا قد بهت لون غلافه.. لأقرأ عنوانه الذي أثار تأملي.. شجاعة السعادة.. تأليف دروثي طومسون.. ترجمة: تماضر توفيق.. تصدير: حسن جلال العروسي..

حاولت أن أتعجل والدتي لتقضي احتياجاتها فلم أفلح.. كنت أسير في طرقات السوق وعقلي يحاول أن يجتلي معنى .. شجاعة السعادة.. ما السعادة؟ هل هي الرضا عن الذات؟ ربما.. وكيف يتحصل الرضا عن الذات؟ أتصور أنه يتحصل بأن يحيا المرء وفقا لمبادئه وقناعاته مهما يطيف به من تحديات.. لكن أليس الاكتفاء بمثل ذلك لا يكون إلا في حالات استثنائية.. وليس الأمر قاعدة مطردة عند جميع الناس..

 لو قلت أن ذلك كاف فسأكون مثل من يقول أن المؤمن لا يصيبه قلق أو اضطراب أو مرض نفسي لأن الإيمان يعصمه من مثل ذلك.. هذا ما سمعته من أحد الدعاة ذات مرة.. فقلت لنفسي.. وأين هو من قوله تعالى: "ولنبلونكم بشيء من الخوف.." ..إذن قصر السعادة على مفهوم الرضا عن الذات لا يصح بعمومه.. تعب عقلي من التفكير خاصة أن والدتي قد نبهتني إلى ضرورة أن أركز لأساعدها في اختيار المشتريات..

أخيرا وصلت إلى حجرتي الصغيرة.. وخلوت بـ (شجاعة السعادة).. كان التقديم جيدا.. فقد عرفت منه نبذة عن مؤلفة الكتاب.. دروثي طومسون الصحفية الأمريكية التي عاشت في فترة الخمسينات من القرن الماضي.. ونالت شهرة واسعة في المجال الإعلامي.. وقد ضم الكتاب مقالات مختارة كتبتها خلال عشرين عاما من حياتها الصحفية..اختارت لمجموعها هذا الاسم.. (شجاعة السعادة)..

في مقالتها الأولى في هذا الكتاب.. تحدثت دروثي طومسون عن كاتب فرنسي عاش إبان الثورة الفرنسية يدعى جوزيف جوبير.. وكيف أن عبارة كتبها لحبيبته قد فتحت لها آفاقا من الفهم لم تكن تدركها من قبل... تقول دروثي أن فتاة جوبير كانت من عائلة ارستقراطية كبيرة.. لكنها وجدت نفسها فجأة وقد فقدت كل شيء بفعل الحرب الأهل والجاه والمال.. ولم تزدها هذه الشدائد إلا كبرياء واعتزازا.. فكانت لا تُرى إلا متجلدة صامدة.. هكذا كانت تراها كل العيون إلا عين حبيبها جوبير.. كان يراها كما وصف الأستاذ محمد حسنين هيكل زوجته المكلومة بفقد ولدها.. في كتابه ولدي..((يذهب الزمان رويدا رويدا بها، وكأن حياتها كلها جرح برؤه في انطفائه))..

فكان أن كتب لها هذه العبارة :
((
يجب أن يتعلم الشخص حب الحياة ...أكبر وأجمل مظاهر الشجاعة ، الشجاعة لتسعدي))
الشجاعة لنسعد.. في أطياف هاتين الكلمتين كانت رحلة دروثي طومسون.. وقد رست سفينة تأملاتها عند شاطئين.. شاطئ الرضا أولا.. ثم شاطئ التسامح ثانيا..

الهدايا الخفية للحياة!
في دنيا الرضا تبين لدروثي أن السعادة الخالصة شعور بالعرفان للحياة، وتجاه الحياة لا يهدأ ولا يخبو حتى في أحلك الظروف، لأنه لا توجد ظروف يمكن أن تقف حائلا دون الاعتراف بجمال الحياة وجمال ذكرياتها، وأنها بما فيها من آلام وأوجاع حلوة وتستحق أن نحياها، وأن كل شيء فيها له مغزى، حتى لو كان هذا المغزى يغيب عن فهمنا، وأن هناك دائما غدا...

إحساس بجمال الحياة تصنعه شجاعة تتجاوز بقوتها سمو التجلد و التصبر والتعايش المرير مع الألم والحزن إلى ذرى حكمة لا تغبش صافي بصيرتها أكدار هي في جوهرها نور لمن اهتدى إلى أن مواطن الجمال في الحياة لا تنقضي، فإذا قبحت لنا وجها أهدتنا بدلا عنه آخر أضوأ وأعمق معنىً أو كما عبرت دروثي: ((وقد عبر جوبير عن (الشجاعة لتسعد) بأنها أجمل مظاهر هذه الفضيلة الكبرى، والواقع أنها تجعل من يتحلى بها جميلا ورائعا، ولكنها في الوقت ذاته تعتبر أكبر إلهام للآخرين، فهي لا تتطلب الشفقة أو الرحمة أو التأسي بل تساعد على المرح والفرح
)).

وعودة للأستاذ محمد حسنين هيكل في كتابه ولدي.. كتب يقول :
((
إن الحياة كثيرا ما تهزمنا في ناحية لتصرفنا إلى ناحية غيرها يكون ظفرنا فيها أكبر أثرا، ويكون ما نؤديه من واجب الحياة فيها أجدى على الحياة، وأعود علينا بطمأنينة النفس، بل بالمجد، بل بالسعادة... إنما النصر الحق المؤزر أن يتغلب الإنسان على ضعف نفسه، وأن يؤدي في الحياة واجبه بإخلاص)) يقول الإمام ابن القيم: يقول العامة قيمة كل امرئ ما يحسن، ويقول الخاصة: قيمة كل امرئ ما يطلب!.

فمهما اشتدت عقبات الحياة، فيكفي المرء شرفًا أن لا يتقهقر أو ينزوي بل يبذل جهده فستتكشف له بعدها هدايا الحياة الخفية الثمينة! فليتك تحلو والحياة لذيذة..
قرأت مرة عن سيدنا عمر بن عبد العزيز قوله: أصبحت ومالي سرور إلا في مواقع القضاء والقدر! هو رضا يملأ القلب طمأنينة إذ امتلأ يقينا بأن.. ((المنع من الله إحسان)) فـ ((متى أعطاك أشهدك بره، ومتى منعك أشهدك قهره، فهو في كل ذلك متعرف عليك، ومقبل بوجود لطفه عليك، إنما يؤلم المنع لعدم الفهم عن الله فيه))...

حقا فقد صدق من قال إن الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا.. فأهل الرضا تارة يلاحظون حكمة المبتلي، وخيرته لعبده في البلاء، وأنه غير متهم في قضائه، وتارة يلاحظون ثواب الرضا بالقضاء فينسيهم ألم المقضي به...

كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: ((أسألك الرضا بعد القضاء))، وهو في ذلك عليه الصلاة والسلام يعلمنا أن نسأل الله عز وجل المرتبة الأعلى في مواجهة تقلبات الحياة، وإلا فإن في الصبر على المكاره خير كثير كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمامان الترمذي وأحمد..

الصبر والرضا منزلتان تطيب بهما حياة المؤمن.. ولعل المنزلة الأولى تفضي إلى الثانية إذا حسن التحقق بها... وجدت كلاما فقهيا جميلا في هذه المسألة ، تأنس به نفس المسلم، ويزداد يقينه.. أحببت أن أنقله إليكم...

يقول الإمام ابن رجب الحنبلي في كتابه جامع العلوم والحكم: ((فالرضا فضل مندوب إليه مستحب، والصبر واجب على المؤمن حتم، وفي الصبر خير كثير، فإن الله أمر به ووعد عليه جزيل الأجر . قال الله عز وجل: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)... والفرق بين الرضا والصبر.. أن الصبر كف النفس وحبسها عن السخط مع وجود الألم وتمني زوال ذلك، وكف الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع والرضا.. انشراح الصدر وسعته بالقضاء...))
                                   فليتك تحلو والحياة مريـرة              وليتك ترضى والأنام غضاب 
                                   وليت الذي بيني وبينك عامر           وبيني وبين العالميـن خرابُ

كنت أستطيب ترديد هذه الأبيات، وأجد في تردادها شعورا متوهما بعزة الإيمان، وأطمح إلى هذه المنزلة التي يستغني فيها المرء عما سوى الله.. هكذا كنت أفهم هذه الأبيات.. أو هكذا كان الفهم الذي أشربته مما سمعت من محاضرات دعوية.. إلى أن قرأت في كتاب كتبه جدي رحمه الله رحمة الأبرار لوالدي-حفظه الله- ما عرفت به أن هذا الفهم في غير موضعه، وأن هدى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يعلمنا أن للعزة مواطنها، وللاستغناء بالله أدبه وفقهه... كتب جدي يقول:
((
قال شيخنا الإمام عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف رحمه الله آمين: كنت أترنم بهذه البيتين:
                                   فليتك تحلو والحياة مريـرة              وليتك ترضى والأنام غضاب
                                   وليت الذي بيني وبينك عامر           وبيني وبين العالميـن خرابُ

فكانت تنتابني البلايا والمصائب حتى وقفت على رواية طريفة عن سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله أنه كان يترنم بهذه البيتين قال: فكانت تنتابني المصائب فتركتهما فكفت عني قال: ومن حين رأيت ذلك تركت الترنم بها فخفت عني المصائب فعلى الإنسان أن يسأل الله دائما.. اللهم اجعلني عبد إحسان لا عبد امتحان:
                                   فليتك تحلو والحياة لذيذة              وليتك ترضى والأنام رضاءُ 
                                   وليت الذي بيني وبينك عامر           وبيني وبين العالميـن سواءُ

إذن فالمسلم يسأل الله العافية، كما كان أكثر دعائه صلى الله عليه وسلم ، فإذا ابتلي فليكن حاله إما الرضا أو الصبر... في دنيا الرضا مع دروثي طومسون كانت بداية رحلتنا.. إلا أني فارقتها لأصحبكم في جماليات تراثنا الأدبي والديني الأصيل.. وفي دنيا التسامح ستكون لنا بمشيئة الله رحلة مقبلة.. أتمنى أن تكونوا قد أحببتم مرافقتي، وشكرا لوقتكم!

اقرأ أيضاً على
صفحتنا مدونات مجانين:
حكايات صفية: الملائكة تلعن النساء فقط؟!
حكايات صفية: لأنك إنسان!
حكايات صفية: ثرثرة صيفية !!
حكايات صفية: نسيم أهل الحجاز
حكايات صفية: مساحات رمادية



الكاتب: صفية الجفري
نشرت على الموقع بتاريخ: 19/02/2005