إغلاق
 

Bookmark and Share

السـنوات الأولـى للطفولــة: الـدارج ::

الكاتب: أ.د عبد الرحمن إبراهيم
نشرت على الموقع بتاريخ: 24/08/2008


السـنوات الأولـى للطفولــة: صورة الجسـم

السنة الثانيـة من الحيـاة
إن استمرار عملية الانفصال وتكوين فردية مستقلة هي الصفة المسيطرة على السنة الثانية من الحياة، وتطور هذه العملية يستمر بكل مرحلة من مراحل التطور على مدى الحياة. ففي القسم الأول من السنة الثانية سيستمر الطفل في تمرينه على عملية الانفصال عن الأم أو الشخص الذي يقوم بدورها. ومع اكتساب الطفل قدرات جديدة كقدرته على الوقوف والكلام، فهو سيلعب دوراً أكثر فعالية في تحديد مدى قربه أو بعده عن أمه، وسيكون باستطاعته اكتشاف أجزاء أوسع من العالم المحيط بها. وخلال هذه الفترة والمسماة بفترة التدرب Practicing Period من قبل Mahler يكون الطفل وكأنه على علاقة حب مع العالم Love Affaire With The World وفي الشهر الثامن عشر يكون الطفل شخصاً أكثر استقلالاً.

والطفل هنا يكون واعياً لهذا الانفصال ومع وجود هذا الوعي تحدث حركة عودة باتجاه الأم فهو في البدء يترك الأم ليدخل العالم الخارجي لكنه لا ليبث أن يعود لأمه لتزوده بالوقود أي ليحقق اتصال جسمي معها ويشعر بالأمان، فالعالم الخارجي الذي اكتشفه الطفل مليء بالأخطار ومساعدة الأم وتطمينها للطفل شيء أساسي قبل أن يخطو الطفل خطوة أخرى على طريق التطور.

هذا الوقت من الابتعاد عن العودة ثم العودة إليها يسمى "إعادة التقرب" Repprochement وسأتحدث فيما يلي عن التطور الخاص بهذه السنة.

تطور النطق (الكلام)
بما أن الكلام هو صفة للإنسان دون غيره فسأناقشه أولاً، فمعظم الأطفال لا يتكلمون بشكل جيد قبل الوصول إلى حوالي عمر السنتين لكن بداية الكلام تكون في نهاية السنة الأولى، وفي هذا الوقت ينطق الطفل بما نعتبره كلماته الأولى ويكون قبل النطق بتلك الكلمات قد مر بمرحلة من المناغاة Babbling وطريقة المناغاة هي واحدة تقريباً في جميع المجتمعات، فهي تكون من صوت لحرف ساكن وآخر متحرك فالطفل سيبدأ بالقول بابا أو ماما أو دادا سواء كان يعيش في الصين أو الهند أو فرنسا أو في أي مكان من العالم.

ولنفهم كيف نشأت هذه الأصوات هناك نظريات عدة أكثرها انتشاراً وقبولاً في وقتنا الراهن نظرية التعلم التي تفترض أن الأم في مرحلة ما قبل التاريخ سمعت هذه الأصوات العشوائية الصادرة عن الطفل واعتقدت- نتيجة لرغبتها بوجود ما يدل على أن طفلها يتعرف إليها- أن هذه الأصوات تعني أن الطفل يناديها فبدأت بتعزيزها عنده (أي أنها كلما سمعت صوت ماما ستستجيب له بابتسامة) وبذلك قررت أن الصوت ماما يستعمل لأهم شخص في حياة الطفل وهو الأم. وعملية التعزيز Reinforcement هذه تجري لكل طفل لأن المناغاة تسبق حتماً الكلام، ففي كل مجتمع تكون الكلمات المستعملة لوصف الأهل مشتقة من هذه الأحرف التي يبدأ بها الطفل المناغاة فمثلاً ما،ما هي ماما وبا،با هي بابا ودا،دا هي دادا ونا،نا هي نانا التي تستعمل للجدة...

إننا نعزز الصوت الذي يقوله الطفل في تطوره ونستجيب لذلك الصوت -مثل ماما- حتى يتعلم في النهاية أن يماثل ذلك وجود الأم أي يتعلم أن ذلك الصوت يعني أمه.
واكتساب اللغة من قبل الطفل في البداية مقتصر على تسميته الأشياء. فلا يوجد استمرارية في الكلام ولا كلمات مجردة، فقط القدرة على مقابلة مشهد بصري مع صوت معين وهذا الصوت يعزز من قبل الأم فإذا قال الطفل كلمة طاطا قدم له البطاطا فهو سيتعلم كلمة صوت بطاطا يقابله بصرياً الشيء هو بطاطا أي ليتعلم ربط الصوت بالشيء الذي يعنيه الصوت. فحدوث التعزيز شيء أساسي لحدوث الكلام.

والطفل بواسطة الأم يوسع قدراته اللغوية خلال السنوات المقبلة ويحِّول هذه القدرة من مجرد كلمات بسيطة إلى اتصال كلامي. ومن المألوف خاصة في الفترة الأولى من اكتساب الطفل للغة أن يقول شيئاً لا تفهمه سوى الأم مثل غذاء (نني) فقط الأم ستفهم هنا ما يقصده الطفل هل يريد الغذاء أم أنه يتناول غذائه أم يلعب مع غذائه. والأم ستوسع اللغة عنده بإضافة الكلمة المفقودة مثل (يريد) وبالتالي سيتعلم الطفل تدريجياً أن يوسع لغته ليستطيع التعامل مع أشخاص آخرين غير أمه.
واكتساب الطفل القدرة على الاتصال مع أمه أولاً ثم مع بقية أفراد العائلة ثم مع بقية العالم هي خطوة أخرى من أجل الانفصال والاستقلال عن الأم والعائلة.

التطور الحركي
الحركة هي الإنجاز الثاني في السنة الثانية من الحياة، والسن التي يستطيع الطفل فيها الوقوف مختلفة نوعاً ما لكنها تكون إجمالاً في نهاية السنة الأولى ومطلع السنة الثانية وقبل كل شيء هذا مرهون باستكمال النخاعين Myelinization في النخاع الشوكي وهذا يتفاوت بين طفل وآخر، وبشكل عام اكتساب النخاعين والتطور العصبي يتم أسرع عند الإناث من الذكور فالفتيات يقفن أبكر من الذكور، إضافة إلى أن المشي واستعمال اللغة يتم عندهن بصورة أبكر.

ومهما كان العمر الذي سيحدث به ذلك فإن الطفل يدخل في عالم جديد عندما يبدأ بالمشي حيث تكون له سيطرة أكبر على ما يحدث له، وله القدرة على اكتشاف محيطه، ويمكنه ترك أمه حين يشاء، وحين يبدأ باكتشاف محيطه -وهذا ما يبدأه بشكل متردد ثم تزداد ثقته تدريجياً- فهو يطلب من الأم أن تلعب دوراً مختلفاً تماماً في حياته عن دورها في السنة الأولى حيث لعبت دور الشخص الذي يلبي حاجاته بينما في السنة الثانية تلعب دور الحماية بالنسبة للطفل من المشاكل التي سيصادفها حين يبدأ المشي.

الذاتية مقابل الخجل والشك
إن سير الطفل في البداية غير ثابت وليس كما هو عليه في الأشهر التالية، ففي بداية المشي يكون استناده على ثلاث نقاط لموازنة وزنه، وحين يبدأ بصعود الدرج يتم ذلك درجة درجة، إنه يتمرن على المشي باستمرار، وهذا التدريب يحمل له متعة كبيرة، والطفل بين عمر 24-18 شهر يمارس هذه التمارين بمتعة كبيرة فهو لا يحب شيئاً أكثر من أن يبقى في حركة مستمرة: مشي وركض وتسلق وسقوط ونهوض فإذا حاول الصعود إلى كرسي وفشل أو سقط فسينهض ويكرر المحاولة حتى ينجح، فالطفل يمارس جميع أنواع المهارات الجديدة حتى يتقنها، وهو عندما يتدرب على هذه المهارات حكماً سيواجه بالصعوبات ويتعرض إلى بعض المشاكل، فعند تسلقه لحافة النافذة مثلاً لا يعرف أنه قد يسقط منها، وإذا لم يتوقف فعلى الأم أن تقوم بحمايته كل وقت.

وبنفس الطريقة سيكتشف الطفل الأشياء والألوان الجديدة فإذا زحف تحت المغسلة ورأى زجاجة مكتوب عليها صابون صويا فهو لن يعرف ما هو ذلك لذا سيحاول أن يتذوقها وإذا رأى على الطاولة شيئاً ثميناً فسيحاول أن يسقطه على الأرض حتى يتفحصه. وفي الحقيقة عندما يصبح الطفل بمرحلة الدارج فقد يوقع نفسه بكثير من المشاكل وقد يلحق الضرر بالأشياء وكل هذا يعني أن الأم ستقول له كلمة "لا" بطريقة أو بأخرى. والطريقة التي تضع به الأم الحدود أمام الطفل تلعب دوراً رئيساً في تطور الطفل، فأحد الأمهات قد تكون متشددة في وضع الحدود وستكون هنا أم تفرض حماية زائدة على ابنها، وستبدأ منذ هذه المرحلة المبكرة بكبح المبادرة عند طفلها، وبكبح رغبته في كشف العالم المحيط به، بينما أم أخرى ربما بدت غير قادرة على وضع حدود أمام طفلها.

والعالم Earkson أحد أكبر الباحثين في تطور الطفل يعتقد أن طبيعة هذه التجربة في السنة الثانية من الحياة هي التي ستحدد الفرق بين الطفل الذي سيكون له نوع من الذاتية مع القدرة على المبادرة في المسقبل وبين الطفل الذي سيكون مثقل بالخجل والشك.

مفهوم (اللا)
إن كلمة "لا" بالنسبة للطفل يمكن أن تعني أشياء مختلفة حسب الطريقة التي تقدم بها الأم هذا المفهوم، فهي ربما لن تستعمل كلمة "لا" لكنها ستفعل الكثير مما نسمي في نظرية التعلم التعزيز السلبي Negative Reinforcement إن ذلك يمكن أن يتم عن طريق تحويل انتباه الطفل عن الشيء الذي يريده أو إزالة ذلك الشيء أو حتى الصراخ أو صفعه، ومهما كانت الطريقة التي تقول بها الأم "لا" فإنها الآن تلعب دور الحماية للطفل، وهذا ما يمكن أن نسميه بالأنا المساعدة Auxillary . ولنتذكر ما قلناه سابقاً عن الأنا وأنه مفهوم نستعمله للدلالة على إحساس الطفل بنفسه وعلى قدرته على التوفيق بين حاجاته الداخلية والمحيط، و"أنا" الطفل تكون غير ناضجة في هذه المرحلة وعلى الأم أن تلعب دوراً مساعداً هنا فهي التي يمكن أن تحميه من الأخطار الخارجية حين يكون الطفل غير قادر على حماية نفسه من الأخطار التي حتى لا يعرف بوجودها، فكل ما يريده هو اكتشاف المحيط وبنفس الوقت يحاول الانفصال عن أمه، ومن وجهة نظر الطفل فإن التقييد الذي تقوم به والدته غير مفهوم وحتى غير محتمل بالنسبة له.

وحتى هذا الوقت يكون الطفل يتمثل شخصية أمه (يأخذ جزءاً من شخصيتها عن طريق تقليدها) وهو يبدأ الآن بتمثل الأم التي تقول لا.
في نهاية السنة الثانية سيقول الطفل بصورة أوتوماتيكية، وربما كان (الطفل) في هذه المرحلة سلبي وفي حالة تعارض دائم مع الأم وتعد هذه السلبية امتداداً لتمثل الطفل لأمه ولكن من الصعب جداً على الأمهات أن يتفهمن هذا الأمر، فالطفل يريد أن يكون أكثر استقلالاً لكن الأم تقول "لا" وهو بالمقابل يرد عليها مباشرة بـ "لا" ويفعل ذلك لضمان استمرار الانفصال عنها من ناحية ولأنه يقلدها من ناحية أخرى، هذه المرحلة من التطور هي التي يطلق عليها في بعض المقالات النفسية "مرحلة السنة الثانية الشديدة الصعوبة terrible twos".

ذكرت سابقاً أن لغة الطفل كانت مقتصرة على الكلمات التي تدل على أشياء واقعية بينما كلمة "لا" هي كلمة مجردة ويعتقد الدكتور Spitz إن استعمال كلمة "لا" يؤدي لتطور الاتصال عند الطفل وذلك هو بداية الاتصال المجرد، إن الأطفال يتعلمون كيف يقولون كلمة "لا" قبل أن يقولوا "نعم" كما يتعلمون هز رأسهم من جانب لآخر كتعبير عن الـ"لا" قبل أن يطرقوا بالإيجاب، وبعض العلماء يرجح أن يكون هذا الشيء محدداً بيولوجياً biologically determined .

استدخال (استبطان) الحدود
بعد أن أرهقت في تربية وحماية الطفل فإن السلوك السلبي Negativistic Behavior الذي شرحته للطفل يكون هو القشة التي تقسم ظهر الأم، ولكن -لحسن الحظ- فالطفل يتعلم وهو يتعلم على عدة مستويات دفعة واحدة، فالأهل عندما يقولون افعل ذلك ولا تفعل ذلك تحدث ظاهرة في منتهى الأهمية ناتجة عن تقليد وتمسك الطفل بوالديه وهي أن الطفل يبدأ في استدخال هذه الأمور وهكذا يبدأ بتكوين ما نسميه بالأنا العليا super ego أو ما ندعوه الضمير Conscience وهذا التطور يبدأ بصورة أولية جداً وأحياناً يمكننا ملاحظة كيف يستدخل أو يتمثل تصرفات الأم نحوه، مثلاً إذا دخل طفل غرفة النوم وفتح الأدراج وأخرج المحتويات فالأم ستدخل الغرفة وتقول له: لا يجب أن، لا تفعل ذلك، وسأكون أكثر واقعية إذا قلت ربما ضربته على يده ثم تعيد كل شيء لمكانه، لكن بعد عشرين دقيقة ربما يدخل الطفل إلى غرفة النوم ينظر إلى نفس الأدراج وهو بحالة رغبة شديدة لمعرفة ما في داخلها، ويمكن لبعض الأطفال أن يتصرفوا بالطريقة التالية: أولا سينظرون حولهم هل الأم موجودة أم لا فإذا لم تكن موجودة سيتوجهون إلى الأدراج لكن بعضهم لن يفتحها بل يقول: لا ثم يضرب يده.

فما الذي حدث هنا؟. لقد استدخل الطفل أوامر الأم وكوّن نوعاً من التنظيم النفسي psychic organization مع نفسه وهذا التنظيم سيؤثر على سلوكه، أي أنهم سيبدأون باستدخال نظام سيطرة Internaleze A Control System، إن بعض الأشخاص لا يكونون نظام سيطرة وهؤلاء يمضون حياتهم في النظر من يراقبهم فالرقيب عليهم ليس من داخلهم أي ليس لديهم قيمة خاصة بهم أو سيطرة داخلية فهم يعملون وفق فكرة هل سألقط أو أعاقب؟ وإذا كان أحدهم يراقبهم فهم لن يعبروا الشارع إلا إذا كانت الإشارة حمراء أما إذا لم يكن هناك رقيب فسيفعلون ذلك والإشارة خضراء وهؤلاء ربما سرقوا أشياء وحتى غشوا في العمل، وطبعاً لا يوجد شخص يملك "ضميراً كاملاً" ولا يوجد واقعياً مثل هذا التعبير في رأي معظم علماء النفس، ولكن الأدق أن بعض الأشخاص لا يوجد لديهم أي درجة من الضمير، وهناك أشخاص يكون لديهم نظام السيطرة قاسياً جداً والممنوعات كثيرة جداً بحيث لا يسمحون لأنفسهم بفعل أي شيء يجلب لهم السعادة فهم يحتفظون بالقوانين التي يزوَّدوا بها مثل "افعل أو لا تفعل" بصورة صارمة ولا يكون عندهم أي نوع من المرونة أو التوسط في الأمور، ويعتبر العلماء أن عملية استدخال الحدود هي عملية متغيرة وتتطور مع تطور الطفل وهنا أناقش فقط بداية هذا الاستدخال وأن كل ما هو غير مرغوب من قبل الأهل يدخل في عملية الاستدخال.

بقي أن أقول أن الاستدخال لن يكون ساكناً فالسلوك غير المقبول من قبل الطفل سيكون مقبولاً في سن أخرى، مثلاً في بداية المشي سيتعلم الطفل أن صعود الدرج لنهايته أمر ممنوع خشية السقوط ولكنه بعد فترة لاحقة سيسمح له بذلك حين يتعلم خطر السقوط وبالتالي فهو سينزل الدرج بعد الوصول لنهايته. وفي معظم مجالات الحياة نلاحظ هذا التغيير وهذا شيء أساسي فجهاز أو نظام القيم المستدخلة Value System يجب أن يبقى مرناً في جميع نواحي الحياة العملية.

الاختلافات الجنسية
من الأشياء الأخرى التي يستدخلها الطفل ويتمثلها هي الفروق بين الذكر والأنثى. ركزت الأبحاث على السؤال هل يوجد فروق أساسية بنيوية غير الفروق في البنية التشريحية الجنسية بين الجنسين، إن أحد المناطق التي نلاحظ بها أحد هذه الفروق هي العنف في الحركة (الحركات العنيفة) Aggrassivity in motor activity وفي معظم الدراسات التي جرت على الإنسان والكائنات الأخرى يكون الذكر فعالاً عضلياً ويميل إلى العنف الفيزيائي، فالقاعدة العامة هي أن الذكر يكون ميالاً لجانب العنف الفيزيائي بينما الفتاة في الجانب الآخر منذ الطفولة الباكرة.

وهذا الفرق ليس مسألة بيولوجية فقط فتوقع المجتمع حول طبيعة الطفل يلعب دوراً في ذلك أيضاً، والمجتمع يتعامل بنوع من السلوك النمطي مع ما هو مؤنث، والأهل عند طفلهم الذكر يشجعون ويوفرون العنف والفعالية الجسدية عنده أكثر مما يشجعونه عند الفتاة التي يشجعونها على السلوك الهادئ الناعم، فنلاحظهم يبتسمون للطفل عندما يصل لقمة اللعبة المطلق عليها عالمياً اسم غابة الجمباز jungle gym في حين بمجرد بدء تسلق الفتاة لهذه اللعبة سينزلونها عنها، كما أن الطريقة الخشنة التي نلعب بها مع الذكر سيدعم سلوكه الذكري بينما الطريقة الناعمة عند الأنثى تدعم سلوكها الأنثوي، ودلت الدراسات أن لحن صوت الأم يتغير فيما إذا كانت تتحدث مع طفلها الذكر عنه مع طفلتها، وهكذا نرى مرة أخرى كيف يعزز المحيط والمجتمع الأمور المحددة بيولوجياً، وعلى سبيل المثال: وبما أن الأطفال الذكور يكونون أكثر حركة في هذه السنة الثانية من العمر فإن حماية الأم لهم تكون أكثر وبالتالي تدخلها في سلوكهم يكون أكثر من الفتاة التي تكون أكثر هدوءًاً، وبالتالي فصراع الذكر مع أمه يكون أشد من صراع الأنثى مع أمها، وبالنتيجة النهائية فالصبي والبنت سيستدخلون طريقة السلوك التي يرغب بها الأهل وسيكون لديهم نوع من الإحساس كيف يتوقع أن يكون سلوكهم كصبي أو كبنت.

نحن نعرف أن الطفل في هذه المرحلة يميز بنفسه هل هو ذكر أم أنثى ولكن ذلك لا يعني أنهم يبدون اهتماماً للاختلاف الجنسي التشريحي أو الوظيفي بل أنهم يكونون إحساساً أن ذلك شيء مذكر وذلك مؤنث وهذا ما نسميه الإحساس نوع الهوية التجنسية Core Gender Identity، فإذا وضعت أمام الطفل لعبة على شكل أشخاص فسيميز أن هذه اللعبة مذكر وتلك أنثى فهم لا يقومون بأي تفتيش تشريحي ليعرفوا ذلك لكنهم يملكون إحساساً بتجنسهم الخاص Their own Gender، إنهم يكونون فكرة عما هو مؤنث وعما هو مذكر في خيالهم من خلال تجاربهم مع أهلهم، ورغم أن هذه العملية (الإحساس بالتجنيس) هي عملية أبسط بكثير من عملية إدراك الهوية الجنسية sexual identity إلا أنها تكوّن البداية لعملية إدراك الهوية التجنسية في المستقبل. ومن الهام جداً أن يرى الطفل أن الأم لها دور والأب له دور آخر.

وبينما أناقش الاختلاف الجنسي يجب أن أذكر كلمة عن الأب، ففي العلوم النفسية عموماً في هذه الفترة من عمر الطفل نادراً ما يتم ذكر الأب أو الحديث عنه كثيراً والسبب أنه لا يتواجد حول الطفل كثيراً في أغلب الوقت، ويجب عليه أن يكون، لكن الواقع غير كذلك، فهو غائب لأسباب عدة فالمجتمع يتجه نحو تقنية أكثر ويحتم عليه هذا أن يكون أبعد أكثر فأكثر عن طفله وعن أخذ أي دور فعال في تربيته، فالعائلات الآن تسكن في الضواحي غالباً والوقت الذي يستغرقه الأب ليذهب من منزله إلى عمله يضاف لفترة غيابه عن البيت هو وقت ليس بالقليل، هذا عدا عن السعي الدائم لتأمين لقمة العيش وتحسين المستوى الاقتصادي لدى غالبية الناس في مجتمعاتنا ولهذا شئنا أم أبينا فالأم هي من تقع على عاتقها مسؤولية التعامل مع فترة التطور الأولى.

وبذلك تنشأ مشكلة الأب الذي يأتي لمنزله ويلعب مع الطفل نصف ساعة قبل ذهاب الطفل إلى النوم، وبعد ذلك ستبدأ الأم بالشكوى من هذا النهار الفظيع وتشكو كم كان الطفل متمرداً سلبياً ويعتقد الأب أن الأم ليست في مزاج جيد لأن الطفل كان رائعاً حين رآه فلماذا يحدث ذلك؟. إن ذلك يحصل لأن الأب في هذه المرحلة له دور خالٍ من التناقض مع الطفل Ambivalence free role فهو ليس الشخص الذي يقول الـ "لا" للطفل، وهو ليس الذي يرتب خلف الطفل ويمنعه من كسر الأشياء أو السقوط عن الدرج فالطفل أيضاً يرى الأب بموقف الشخص الرائع الذي يأتي للمنزل ويلعب معه ونادراً ما يقول له "لا" بينما ينظر للأم نظرة تناقضية وهذا له أهمية كبرى في هذا العمر فالطفل سيبدأ بمعرفة دور كل جنس على حدة.

وهكذا سيأخذ الطفل الإحساس بالتذكير أو التأنيث من والديه، وأن تغيير الأدوار بين الوالدين سيلعب دوراً بالتأكيد في التأثير عليه فتأثير كون الأب هو الذي يربي الطفل ويرعاه بينما الأم هي التي تعمل لا نعرف منه إلا القليل. وهناك نموذج آخر هو رعاية جماعية للطفل وهي ليست شائعة في مجتمعاتنا، وانتشرت في الاتحاد السوفييتي السابق وعلى نطاق محدود في أوروبا وأميركا وساعدت على فهم أدق لكيفية إدراك الطفل لما هو مذكر وما هو مؤنث.
                                                وللحديث بقية.............
المصدر: المجلة الإلكترونية للشبكة العربية للعلوم النفسية



الكاتب: أ.د عبد الرحمن إبراهيم
نشرت على الموقع بتاريخ: 24/08/2008