إغلاق
 

Bookmark and Share

شخصية الرئيس(بين الزعامة والوظيفة) 1 ::

الكاتب: د. محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 15/06/2006

لا تستقيم حياة البشر دون أن يكون هناك رئيسا ومرؤوسا, حاكما ومحكوما, جنديا وقائدا, وعلى أساس شخصية كل من هؤلاء وديناميات العلاقات القائمة بينهما تكون نوعية الحياة وعلامات التحضر والرقى.

إشكالية العلاقة بين الحاكم والمحكوم
ذكر العلامة ابن خلدون في مقدمته العظيمة (والتي هي أصل علم الاجتماع الحديث) أن "العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك" وأن "آفتهم الرئاسة", ويصف سلوك الملك أو الأمير أو الرئيس بقوله:"وإذا تعين له ذلك ومن الطبيعة الحيوانية خلق الكبر والأنفة, فيأنف حينئذ من المساهمة والمشاركة في استتباعهم والتحكم فيهم, ويجئ خلق التأله الذي في طباع البشر مع ما تقتضيه السياسة من انفراد الحاكم لفساد الكل باختلاف الحكام" لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ" (الأنبياء 22), فيجدع حينئذ أنوف العصبيات (الأحزاب والجماعات بلغة العصر ) ويكبح شكائمهم عن أن يسموا إلى مشاركته في التحكم, يفرع عصيهم عن ذلك, وينفرد به ما استطاع حتى لا يترك لأحد منهم في الأمر ناقة ولا جملا فينفرد بذلك المجد بكليته ويدفعهم عن مساهمته فيه.

وقد يتم ذلك للأول من ملوك الدولة وقد لا يتم للثاني أو الثالث على قدر ممانعة العصبيات وقوتها ,إلا أنه أمر لابد منه في الدول "(مقدمة ابن خلدون ص 196 وص 216 دار الفجر للتراث). ورغم مرور السنين على هذا القول (ابن خلدون 1332-1406م) إلا أن مشكلة الرئاسة لدى العرب تشكل عقبة في طريق نموهم وتطورهم, والأمر يرجع إلى ما قبل ذلك بكثير ربما إلى وقت الصراع الذي دار بين على بن أبى طالب ومعاوية بن أبى سفيان رضي الله عنهما حول الخلافة واستعر الصراع في عصر يزيد

وهذا ربما يدلنا كما نقول في علم النفس على أن هناك صراعا لم يحسم أو عقدة لم تحل في هذا الموضوع تجعل المجتمعات العربية في حالة تأزم في معظم فترات تاريخها على الرغم مما امتلكته من عوامل قوة حضارية إلا أن مأساته كانت في أمر الملك والرئاسة والإدارة. وقد آثر الكثيرون من فقهاء الأمة وعلمائها الانصراف عن هذا الأمر المليء بالعقبات والمشكلات والمهالك إلى التأليف في علوم اللغة والتفسير والفقه, ومن تصدى منهم وكتب في أمور السياسة والحكم كتبها تحت ضغوط عصره وظروف بلده فجاءت بعيدة عما يجب أن يكون . وفى مصر قد تعود الأزمة إلى زمن الفراعنة نظرا لطبيعة المجتمع النهري الذي استدعت وجود سلطة مركزية تدير النهر وما يترتب عليه من أحوال الزراعة في الفيضان والجفاف, فكانت هذه السلطة المركزية تميل كثيرا إلى الاستبداد وتميل الجماهير إلى الخضوع والمداهنة ومحاولات تفادى بطش السلطة.

وفى القرن السادس عشر جاء السياسي البرجماتي نيقولا ميكيافيللي وكتب كتاب "الأمير" والذي كان صدمة لكل دعاة العدل والحرية في المجتمعات البشرية حيث حوي هذا الكتاب نصوصا وتعليمات ونصائح للأمير تشكل دستورا للاستبداد والطغيان تحت دعوى الواقعية والبرجماتية وتحقيق المصلحة واستقرار الحكم . وقد كان ميكيافيللى مدفوعا في كتابته لهذا الكتاب بكراهية ورفض لتحكمات الكنيسة ورجال الدين في عصره فأراد أن يفصل تماما بين الدين والسياسة, وتمادى في ذلك بأن فصل بين الأخلاق والسياسة فكان كتابه بعيدا عن الالتزام بأي أخلاق متعارف عليها بحجة أن الأخلاق تفسد السياسة وتحد من فاعلية السياسي وقراراته.

وفى نهاية القرن التاسع عشر كتب "جوستاف لوبون" كتابه الشهير "سيكولوجية الجماهير" ليصف فيه الطرف الآخر المقابل للسلطة وهو الجماهير فقال عنها: "إن الجماهير أبعد ما تكون عن التفكير العقلاني المنطقي, وكما أن روح الفرد تخضع لتحريضات المنوم المغناطيسي فإن روح الجماهير تخضع لتحريضات وإيعازات أحد المحركين أو القادة الذي يعرف كيف يفرض إرادته عليها, وفى مثل هذه الحالة من الارتعاد والذعر فإن كل شخص منخرط في الجمهور يبتدئ في تنفيذ الأعمال الاستثنائية التي ما كان مستعدا إطلاقا لتنفيذها لو كان في حالته الفردية الواعية والمتعقلة.

فالقائد أو الزعيم إذ يستخدم الصور الموحية والشعارات البهيجة بدلا من الأفكار المنطقية والواقعية يستملك روح الجماهير"(سيكولوجية الجماهير ترجمة هاشم صالح, دار الساقي, بيروت)، وإذا أضفنا صورة الأمير لمكيافيللى كرمز للسلطة إلى صورة الجماهير لدى جوستاف لوبون فإننا نحصل على منظومة كاملة للعلاقة السلبية بين الحاكم والمحكوم.

المجتمع الأبوي والسلطة:
وعلى الرغم من أن المجتمعات البشرية قد استفادت من أزماتها وصراعاتها في هذا المجال ووضعت آليات تضمن سلاسة وإيجابية العلاقة بين الحاكم والمحكوم بدرجة معقولة نسبيا تبدت في نظم ديمقراطية ومؤسساتية حديثة إلا أن العرب مازالوا من بين أمم الأرض يتخبطون في هذه الدائرة دون بادرة أمل لخروجهم منها في المستقبل القريب, ففي مصر والعالم العربي على وجه العموم أزمة حقيقية في الوقت الراهن سببها ذلك الصراع الخفي أحيانا والظاهر أحيانا أخرى بين فكرة المجتمع الأبوي وفكرة المجتمع الناضج.

فالمجتمع الأبوي يقوم على أساس أن هناك والدا أو مسئولا أو رئيسا يملك كل شيء ويعرف كل شيء ويوجه كل شيء وله احتراما خاصا قد يصل إلى درجة القداسة التي تستوجب الطاعة العمياء من الأبناء أو التابعين أو الرعية والذين ينحصر دورهم في الإتباع والانصياع والتنفيذ, وهذه هي المنظومة التي مازالت قائمة على المستوى الأسرى والوظيفي والعام، أما المجتمع الناضج والذي تنادى به العقلاء والراشدون من البشر فهو الذي يوزع المهام والأدوار بين أفراد ومجموعات يتسمون جميعا بالنضج والمسئولية دونما تضخيم أو تقديس لأحد وذلك ضمن منظومات متطورة ومرنة وفاعلة وقابلة للتغيير الإيجابي.

ويبدو أن هذه الأزمة مرشحة للتفاقم حاليا وبقوة بسبب حالة العولمة الثقافية التي أتاحت لفئات كثيرة رؤية واسعة للعالم الأوسع وما يجرى فيه مما فتح الباب أمام مقارنات مؤلمة ومحفزة ومفجرة, فعلى الرغم من سيادة فكرة المجتمع الأبوي على المستوى الرسمي إلا أنه على المستوى الاجتماعي والثقافي قد حدثت تحولات هائلة تجاه فكرة المجتمع الناضج بعضها مازال على مستوى التنظير والأمنيات وبعضها دخل حيز التنفيذ على حذر أحيانا واستحياء في أحيان أخرى, وفى المقابل يقاتل الآباء (على المستوى الأسرى والمؤسساتي والحكومي) من أجل إبقاء الأوضاع القائمة كما هي بما يخدم تربعهم على عرش السلطة والسطوة والأمر والنهى, وهم حين يدركون تغير الزمن والأحوال والظروف ربما يحاولون التظاهر بمسايرة ضرورات التغيير والتحول من حيث الشكل دون المضمون, ولكن من المؤكد أن عجلة التطور تدور ولا يستطيع أحد مهما كان أن يوقفها طول الوقت.

وبما أننا في الواقع مازلنا نعيش حقبة المجتمع الأبوي لذلك تشكل شخصية الرئيس كما قلنا المحور الأساسي في التخطيط والتوجيه والتحريك والتوقيف حيث أن زمام الأمور دائما بيده فهو يضبط إيقاع حركة المجتمع الذي يقوده وفق رؤاه الشخصية, ونحن نقصد بالرئيس هنا كل صاحب سلطة على المستويات المختلفة بدءا من الوالد في الأسرة (وأحيان الوالدة فى بعض الأسر) مرورا بالمديرين ورؤساء مجالس الإدارات ورؤساء الأقسام والعمداء والوزراء وانتهاءً بأعلى سلطة سياسية (ونحن نركز على كل المستويات حتى لا تختزل جهود الإصلاح على مستوى دون غيره), وما دام الأمر فى الواقع كذلك (بصرف النظر عن قبولنا أو رفضنا).

فإن شخصية الرئيس (في أي موقع أو مستوى) تصبح جديرة بالدراسة والتأمل لأن من خلال فهمنا لها نستطيع فهم ما يجرى وتوقع ما سوف يحدث فالأمور لا تسير في الأغلب حسب ما تمليه الدساتير والقوانين واللوائح بقدر ما تسير حسب ما يرى الرئيس أو الملك أو الأمي أو المسئول ولهذا فأنت لا تحتاج أن تتعب نفسك في قراءة الدستور أو القانون في كثير من الدول العربية والمؤسسات العربية بقدر ما تحتاج أن تعرف من هو الشخص الذي يترأس هذا المكان وما هي سماته الشخصية, أي أننا أمام حالة شخصنه للتوجهات والرؤى والسياسات, وبمعنى آخر نحن أمام ما يسمى بسلطة الشخص أو سلطة السلطة (يقابلها في المجتمعات المتقدمة سلطة القانون).
                                                                                                                                     
 وللحديث بقية........
للمشاركة والتواصل:
maganin@maganin.com

اقرأ أيضاً:
قادة العالم واضطرابات الشخصية(1) / قادة العالم واضطرابات الشخصية(2) / الشخبطة السياسية / الدلالات النفسية لزواج الأمير تشارلز من عشيقته / سيكولوجية الاستبداد (الأخير) /  سيكولوجية التعذيب /  شخصية الطاغية /  البراجماتيزم... دين أمريكا الجديد.



الكاتب: د. محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 15/06/2006