إغلاق
 

Bookmark and Share

صفحات من تاريخ الطب: من محن الأطباء(1) ::

الكاتب: أ.د مصطفى السعدني
نشرت على الموقع بتاريخ: 13/02/2007

حنين بن إسحاق (194– 264هـ) (809 - 876 م)
هو طبيب من عرب الحيرة، ولد لأب صيدلاني، وكان نصرانيا نسطوري المذهب عاش معظم حياته ومات ببغداد –وهناك بعض الاختلاف بين المؤرخين على تاريخ وفاته ولقد اشتهر بدقته الشديدة في ترجمته لكتب أبقراط وجالينوس، أتقن اللغات العربية والسريانية واليونانية والفارسية قراءة وكتابة وأدباً، وقاد مدرسة من أبرع المترجمين في العصر الذهبي للدولة العباسية من أمثال قرة بن ثابت وابن أخته حبيش الأعثم وابنه إسحاق وأصطفن بن باسيل ويحي بن هارون. ولقد سافر إلى اليونان والقسطنطينية والإسكندرية وإنطاكية والرها وجنديسابور ودمشق لتعلم اللغات ودراسة الطب وجمع المراجع من مخطوطات الطب بمختلف اللغات.

كانت أول محنه مع أستاذه يوحنا بن ماسويه ببغداد، والذي كان يحذر من أسئلة هذا الطالب المجد المجتهد، وفي إحدى الجلسات التعليمية هاجمه يوحنا وتهكم عليه طالباً منه أن ينسى الطب ويعمل بالتجارة كمعظم أهله من أهل الحيرة!!، وطلب منه ابن ماسويه ألا يحضر دروس الطب ببيته مرة أخرى!!، فخرج حنين باكياً وأصر أن يتفوق على أستاذه بل على كل جهابذة مدرسة جنديسابور، من أمثال بن ماسويه وأبناء بختيشوع وإسرائيل الطيفوري، والذين كانوا يعتبرون أنفسهم أفضل الأطباء على وجه الأرض قاطبة في عصرهم، وشرع حنين في السفر إلى الإسكندرية لإتقان لغات الإغريق ودراسة الطب مع جمع ما يستطيعه من كتب الطب، ثم أتقن الفارسية ودرس ما كُتب باللغة الفارسية عن الطب، واستمر في البحث والتحصيل لعلوم الطب حوالي خمس سنوات مختفياً عن بغداد، ولقد ترجم في حياته حوالي 95 كتابا طبياً من اليونانية إلى السريانية وحوالي أربعين كتابا إلى العربية، فعلى نجمه بين معاصريه من الأطباء، ومن روعة وجمال أسلوبه ودقته في تراجمه، وبالذات عن أبقراط وجالينوس طلب أستاذه القديم يوحنا بن ماسويه وده، واعترف أمام الأطباء بفضل حنين بن إسحاق، واعتذر له عن طرده إياه من قبل بل طلب منه أن يلازمه في دروسه الطبية.

[ولنتوقف معاً عند هذه المحنة الصعبة، حيث كنت أتوقع أن عنصرية بعض كبار الأطباء وظلمهم هي مشكلة في زمننا الحالي فقط، وذلك نتيجة لمعيشتنا في أقطار العالم الثالث، ولكن اتضح أن الموضوع له أصول تاريخية؟!!!، فكم سمعنا عن أساتذة من الأطباء أخروا تلاميذهم كثيراً في الحصول على درجة الدكتوراه خوفاً من أن يكونوا منافسين لهم في مجال تخصصهم؟!!، وكم من طبيب متفوق وعلى خلق رفض بعض أساتذته منحه درجة الدكتوراه لاختلافه معهم في المذهب أو الديانة !!!.

أما عن التعذيب اللفظي والمعنوي - والجسدي أحياناً- من بعض أساتذة الطب لطلابهم النجباء من الراغبين في الدراسات العليا فحدث عن ذلك ولا حرج!!، المهم أن هذا الحديث ذو شجون، ويكفيني أن أذكر هذا القدر وحسب، خصوصا أنني قد صرت أستاذاً في الطب، وأخشى من نفسي على نفسي أن أكون يوماً ما- ظالماً لطبيب زميل فاضل أصغر مني وبحاجة لعوني ومساعدتي، كما ظلم يوحنا بن ماسويه وآذى - يوماً ما - زميله الأصغر الطبيب الفاضل حنين بن إسحاق.]

أما محنته الثانية فكانت في أيام الخليفة المتوكل على الله (232 - 247هـ) حين بلغ حنين قمة مجده كمترجم وكطبيب. لكنه خلال نفس الفترة نكب بمحن جرها سوء ظن المتوكل به -وذلك خوفاً من أن يكون مدسوساً عليه من إمبراطور الروم بالقسطنطينية- وكذلك حسد زملائه النصارى له من أمثال يوحنا بن ماسويه وابن بختيشوع وإسرائيل الطيفوري. وأول هذه المحن ما رواه ابن أبي أصيبعة من أن المتوكل لما قويَ أمر حنين وانتشر ذكره بين الأطباء أمر بإحضاره. فلما حضر أجزل له العطاء, وكان الخليفة يسمع بعلمه ولا يأخذ بأي دواء يصفه حتى يشاور فيه غيره, وأحب امتحانه حتى يزول ما في نفسه عليه, ظنا منه أن ملك الروم قد يكون خطط لاغتياله مع ابن إسحاق, فاستدعاه المتوكل يوما وأمر بأن يُخلع عليه، وأحضر توقيعا فيه إقطاع يشتمل على خمسين ألف درهم، فشكر حنين هذا الفعل.

ثم قال الخليفة: "أريد أن تصف لي دواء يقتل عدواً نريد قتله سرا".
فقال حنين: "يا أمير المؤمنين: إني لم أتعلم إلا الأدوية النافعة. وما علمت أن أمير المؤمنين يطلب مني غيرها. فإن أحب أن أمضي وأتعلم فعلت ذلك".
فقال الخليفة: "هذا شيء يطول".

ورغبه وهدده فلم يزد حنين عما قاله. فأمر بحبسه في بعض القلاع ووكل به من يوصل إليه خبره وقتا بوقت ويوما بيوم. فمكث سنة في حبسه دأبه النقل والتفسير والتصنيف غير مكترث بما هو فيه: فلما كان بعد سنة أمر الخليفة بإحضاره وإحضار أموال يرغبه فيها. وأحضر سيفا ونطعا وسائر آلات العقوبات.
فلما حضر قال له الخليفة: "هذا شيء قد كان ولا بد أن تنفذ ما قلته لك، فإن أنت فعلت فزت بهذا المال وكان لك عندي أضعافه. وإن امتنعت قابلتك بشر مقابلة وقتلتك شر قتلة".
فقال حنين: "قد قلت لأمير المؤمنين أني لم أحسن إلا الشيء النافع ولم أتعلم غيره".
فقال الخليفة: "فإنني أقتلك".
فقال حنين: "لي رب يأخذ بحقي غدا في الموقف الأعظم فان اختار أمير المؤمنين أن يظلم نفسه فليفعل".

فتبسم الخليفة وقال له: "يا حنين طب نفسا وثق بنا فهذا الفعل كان منا لامتحانك, لأنا حذرنا من كيد الملوك وإعجابنا بك . فأردنا الطمأنينة إليك والثقة بك لننتفع بعلمك".
فقبل حنين الأرض وشكر له.
فقال الخليفة: "يا حنين ما الذي منعك من الإجابة رغم ما رأيته من صدق عزيمتنا في الحالتين".
فقال حنين: "شيئان يا أمير المؤمنين".
فقال المتوكل: "وما هما".
قال: "الدين وصناعة الطب".
فقال الخليفة: وكيف?!
قال حنين: "الدين يأمرنا بفعل الخير والجميل مع أعدائنا فكيف أصحابنا وأصدقائنا, ويبعد ويحرم من لم يكن، كذلك فصناعة الطب تمنعنا من الإضرار ببني جنسنا؛ لأنها موضوعة لنفعهم ومقصورة على مصالحهم".

ومع هذا فقد جعل الله في رقاب الأطباء عهدا مؤكدا بإيمان مغلظة: "ألا يعطوا دواء قتالا ولا ما يؤذي . فلم أر أن أخالف هذين الأمرين من الشريعتين ووطنت نفسي على القتل. فإن الله ما كان يضيع من بذل نفسه في طاعته. وعلى كل يثيبني".

فقال الخليفة: "إنهما لشريعتان جليلتان".
وأمر بالخلع فخلعت عليه. وحمل المال بين يديه. وخرج من عنده وهو أحسن الناس حالا وجاها.

كانت هذه التجربة امتحانا قاسيا وسوف تعقبها محنة أشد فكلما ارتقى حنين في فكره وعلمه كلما زاد حساده والحاقدين عليه. فما أسهل اللعب بعقول الحكام المستبدين!!!.
[وهنا لابد من وقفة لنا -نحن الأطباء وخصوصاً أن هناك من الأطباء من يوظفون علمهم وتقنياتهم في الإضرار بالبشر وأذيتهم وغشهم، مثل إجراء عمليات الإجهاض بلا ضرورة طبية، والغش بإجراء عمليات ترقيع غشاء البكارة للبنات اللاتي لم يتزوجن بعد في مقابل المال أو أي غرض آخر دنيء!!، وعلى مستوى أعلى من الشر: تصنيع القنابل الجرثومية كالجمرة الخبيثة والجدري والإيدز والقنبلة الجينية التي يمكنها تدمير شعوب بأكملها، وكذلك توظيف نظريات علم النفس في غسيل المخ وعمليات التعذيب للمعارضين السياسيين وغيرهم، واختراع مواد منشطة ومخدرة يدمنها المراهقون والشباب الأصحاء!!!.

وهؤلاء الأطباء يسعون للشر سعياً وتطوعاً ولم يرغمهم حاكم ولا ملك على الإتيان بما فعلوه من شرور!!، ومن هنا يتضح لنا سمو قيم وأخلاق هذا الطبيب النابغة الذي آثر تقشف وظلمة السجن على نعيم القصور؛ وذلك برفضه لما يدعوه إليه الخليفة من مخالفة لتعاليم الدين وأخلاقيات مهنة الطب رفضاً قاطعاً.

وفائدة أخرى نستفيدها من هذا الموقف الشجاع للطبيب العربي حنين بن إسحاق المسيحي النسطوري وهي أن الأديان كلها لا تبيح أبداً الابتداء بالغدر والعدوان على البشر أو ما يسمونه حالياً "بالحرب الاستباقية" مستخدمين السموم أو الجراثيم أو المواد المشعة أو غازات الأعصاب أو المخدرات أو علم الوراثة في أذية الشعوب المسالمة والمستضعفة].
                                                                                                 
وللحديث بقية
اقرأ أيضاً:
أوجه الشبه بين قتل صدام والمستعصم  / أوجه الشبه بين قتل صدام والمستعصم  / صفحات من تاريخ الطب النفسي(2)  



الكاتب: أ.د مصطفى السعدني
نشرت على الموقع بتاريخ: 13/02/2007