الفراشة حصرياً... ومساحة اللاقرار م6
ها قد عدت! أجر خيباتي ورائي.
أنا اليوم يا صديقة، واسمحي لي بهذه المناداة فأنتِ من بدأها ولقد سُعدت بها.
أنا اليوم يا صديقة أشعر بخيبة كبيرة وأعجز عن وصفها. كنتُ أتمنى حين تخرجت من الثانوية العامة أن أتخصص في علم النفس، حمدتُ الله أنها لم تتح لي الفرصة، فأتصور أنني سأنقل الخيبة، وسأنقل الشؤم الهائل للمرض، وستكون مدرسة جديدة في علم النفس أن يُعالج المريض بالشؤم حتى تُصبح لديهِ مناعة ضد الخيبة.
نعم أحتاجها بشدة واحتياجي أكبر من غضبي، لم أحتمل، صارحتها بشعوري بالعبثية، وبرغبتي في الموت، بكيت، صارحتها بتناولي مضاد الاكتئاب منذ عدة سنوات، صارحتها بأني لا أشعر باهتمامها وأنها إذا سألت وصددتها لا تحاول ولا تصر فتنسحب بكل برود، أجابت بأنها لا تريد إجباري على شيء وأني إذا أردتُ الحديث أو الفضفضة فذلك يأتي من نفسي. وتحدثت هي عن الأهداف. وقالت بما أنني أقرأ وأطلع فالتساؤلات والشعور بالعبثية شيء ربما طبيعي، حتى لو كنتُ مقتنعة من ناحية دينية بوجودنا وبهدف الوجود، قالت ذلك بهدف الطمئنة لا بقصد ذم القراءة.
انتهت الجلسة وحكم الواقع حضوريا بأن لا شيء تغير.
أنا اليوم يا صديقة أعود بخذلان أكبر، فطريقة تفكيري التي تحدثت عنها، ليست كما تتصوري. إني أرى المشهد كاملاً أرى أمي امرأة عظيمة جداً، فهي حرصت على أن لا تكرر سيناريو القسوة والتفرقة، فهي عاشت في جو أسري قاسي، هي عانت من هدم الأحلام، هي كافحت على المستوى الأسري والشخصي والمادي. أرى كل هذا ولازلتُ كذلك فأنا حريصة على رؤية المشهد وقراءة النص بالكاملو، وهذا ما علمتني إياه أمي، وهذا ما يجعلني حريصة جداً على مشاعرها، وهذا ما جعلني أيضا أضعُ المسافات.
أمي امرأة مثقفة هكذا أراها ويراها من حولها، هي حريصة جداً على أن لا أعيش كما عاشت، فهي لا تطلب مساعدتي في الأمور المنزلية إلا ما ندر فأنا من يقوم بذلك بنفسي، هي تبدو قوية في نقاشي معها بل نظراتها وجلستها وهيئتها أشبه بمحلل نفسي، وفي مواطن أخرى يتضح الضعف والعجز لا أقصد شخصيتها لكنه شيء أشبه بالانكسار فهي لازالت تعاني من أشياء صعبة في حياتها، ولا أنكر أنها تهتم بي من ناحية صحية إذا رأتني غير طبيعية أو أعاني من آلام جسدية.
ألتمسُ أحيانا رياح الكآبة تهب عليها في بعض الأحيان لا أدري هل هي الجينات؟ أم نتيجة ظروف البيئة التي عاشتها والماضي؟ ولا يمكنني الجزم بأن السبب سن اليأس ألأني كنتُ ألاحظ ذلك حين كنتُ صغيرة وخاصة حين لا تعمل، وأحياناً تشعر بالوحدة ولكنها لا تصرح بشيء، وأحيانا تشتاق الأمومة فتؤنب ابنة أخيها التي ترفض إنجاب أكثر من طفلين.
صديقتي، صدقيني لستُ أرفضُ مبادرة الصغير، أنا لا ألومها الآن ولا أعاتبها لقد فات الأوان ولقراءتي للنص ورؤيتي للمشهد كاملاً أنا أعذرها، وأيضاً أضعُ نفسي مكانها، فلو كانت لدي ابنة تحمل هذا الكم الهائل من الشؤم والتعاسة فبماذا انتشلها وقد نفذت كل الطرق، ولا أخفي أن نقاشي الأخير أحدث مسافة أكبر نتيجة رد فعلها، ولكن أيضا اتضحت أهمية بعض الأمور وهي أنني أحتاج إلى من يحمل المصباح في هذا الطريق المعتم أكثر أنا اليوم لا أبحث عن "الطبطبة" كما كنتُ في السابق ولا أنكر حاجتي ذلك لكوني شخصٌ كتوم، أنا أحتاج أن أخرج من الوهم وأحلام اليقظة وبشدة فلقد غرقت ولم أكن أحمل حقداً على أحد كالذي أحمله تجاه الواقع، والواقع يتحدث ويقول أنني ميته!
تحمَّليني قليلاً يا صديقتي فلن أنسى أنكِ حملتي مصباحاً في يوم ما، ولن أنسى أنكِ ترجمتِ هذه الصفحات الطويلة اللاأبجدية والمشتتة، الواقع على الصعيد الشخصي، وعلى صعيد هذه الحياة مبغوض، أنا أعاني من مشكلة أنني أكتئب طويلاً حين أسمعُ أخبار القتل والدمار، وليس الحل طبعاً أن أبتعد عن الأخبار فهي مصدرُ إحساس، وهي لقمةُ عيش هذه الروح القاسية، ويكفيني حالات التبلد والصنمية التي تأتيني في أحيانٍ كثيرة على الصعيد الشخصي، في الماضي والحاضر وربما المستقبل...
(لم أطلب نبش الماضي لتقتربي من الألم الكامن كما ذكرت، ولم أطلب نبش الماضي لتغرقي في محيط النواح على الحظ العاثر الذي التصق بك منذ صغرك فلا تنجو أبداً، ولكن النبش فيه بطريقة صحية لتتمكني من التقدم للأمام فكفاكي متاهة). بدأتُ أجسُ النبض في جلستي الأخيرة مع والدتي في إمكانية النبش بطريقة صحية ووجدتُ أنه لا يمكن، فردة الفعل ليست مشجعة على تفهمها ما سأقول وما أشعر وما آلت إليه الأمور اليوم بعد تلك الجلسة.
أشعرُ أن مشكلتي عويصة حين أقرأ باقي الاستشارات، فالبعض نصحتهِ بالإصرار والبعض نصحتهِ بالبُعد والبعض نصحتهِ بالحب وأنا بماذا ستنصحينني اليوم بغير المواجهة الناضجة والنبش في الماضي بطريقة صحية؟؟ صدقيني لستُ أستخف بما قدمتهِ وستقدمينه فأنتِ وضحتِ لي أشياء كثيرة وتغير جانب من حياتي إلى الأفضل، ولازلتُ عاجزة عن شكركِ. لكنني أتساءل عن المتخصص النفسي فهو بشر ولا يمكنه تقديم المعجزة؟
يا إلهي هل أنا فعلا أبحثُ عن معجزة؟! للتو صُدمت حين ذكرتُ كلمةِ معجزة هل أنا إلى هذا الحد خيالية وحالمة؟ هل أحلام اليقظة تأصلت في داخلي إلى هذه الدرجة؟!!
لستُ أبحث عنها أريد الواقع. أريد الواقع! رغم مرارته لكنني أفضله على العيش بين أحلام اليقظة التي صارت جزء لا يتجزأ من حياتي، استفحلت واستفحل معها اكتئابي ووسواسي، ضعت اجتماعياً وضاع وقتي معها وكاد أن يضيع مستقبلي الدراسي لولا أن ستر الله.
أريد مواجهة الواقع بشكل أكبر فأنا ضعت، لا أعرفُ كيف أتقبل مخاوفي ولا أعرفُ كيفَ أتقدم؟ وأحيانا أشعر أن رغبتي في التقدم تتلاشى!
أعني أنني أريد أن أكون طبيعية أستطيع الاعتراف بخوفي ككل البشر، أستطيع التصرف بتلقائية وعفوية أكثر، أريد التخلص من حالة التشنج والقلق التي تتواجد حتى في أثناء عزلتي، فمثلاً أنا أكون تلقائية مع صديقاتي المقربين ولكن لا أستطيع أن أكون تلقائية وعفوية أمام من علاقتي فيهم سطحية جداً، كزملاء الدراسة فربما أتحدث وأمزح وأساعد ويبادلونني ذلك...الخ، لكن أنا لست على طبيعتي أنا تدمرت ودفنتُ نفسي في أحلام اليقظة، كيفَ الخلاص؟ وكما قلتِ: كفاني متاهة.
(أنا لا أعرف شيئا من حياتي الآتية، لي ذات غير أني لست أدري ماهيه، فمتى تعرف ذاتي كنه ذاتي؟ لست أدري!)
"إيليا أبو ماضي"
13/7/2016
رد المستشار
أهلا وسهلا بك يا صديقتي؛
حين حدثتك عن الماضي؛ كان الهدف منه أن تستبصري بما ينغص عليك حياتك، ليس لتغرقي فيه، ولا لعلاجه بشكل متخصص، ولكن استبصارك بالسبب يفرق داخليا معك على الرغم من ألمه وصعوبته، والتعامل الصحي معه هو أفضل الطرق؛ فلا تغرقي في العتاب، ولا تغرقي في القفز دون علاج صادق لما يؤلمك؛ وقلت بوضوح أن علاقتك بوالدتك علاقة مهمة ولها أثرها فيك، وهناك فارق كبير بين العلاقة المهمة، والعلاقة الوحيدة....! فأثر علاقتك بوالدتك هام، رغم أنه من الخطأ الكبير أن تظل علاقة وحيدة تملك مفتاح الحياة.
فلتكرري الحديث ولكن بروح أخرى, فيها رغبة حقيقية في التعبير عن احتياجك بالأمان، والراحة والقبول الغير مشروط، وسنجدي فارقاً كبيراً؛ فوالدتك من خلال سطورك على شجاعتها، وعقلانيتها، وثقافتها إلا أنها شخص تألم وكابد، ويعاني فترات اكتئاب وانزواء؛ وهذا له أثر نفسي على أولادها مهما كان.... فلتجددي رؤيتك لها، ولنفسك؛ لتتمكني من "التصالح" الصادق في تلك العلاقة "بداخلك"؛ فهو عين ما تحتاجينه الآن، ولا تقفزي على هذا التصالح، أو تصوره زيفا قبل استيفاء وقته؛ فلتأخذي وقتك حتى تصلي له، وستجدي عجباً....
وأكتب لك الآن وأنا أستمتع بقدرة شعب أردوغان على التغلب على الفساد والرغبة في السيطرة، والقتل، والظلم؛ فهذا أيضاً واقع، وستجدي في حياتك أكثر من واقع آخر. اخترت ألا تري منه سوى الواقع المؤلم المظلم؛ لأنه يريحك في مستوى من مستويات لاوعيك دون أن تدري؛ فالبقاء في حالة من الشرود، والتوهة، والرفض كثيرا ما يكون مريحا عن بذل جهد التغيير ولو تحدثنا كثيرا عن الرغبة في التخلص منه دون وعي منا!!؛ فكل يوم هو في حقيقته اختيارا جديدا لقرار جديد نتحمل تبعاته بشرف وجهد، وحين تتلون الأيام بنفس اللون يكون هذا هو عين اختيارنا!؛
ولقد صدقت بأن المعالج حتى يتمكن من علاج من يأتيه.... عليه أولا أن يعالج مشكلاته حتى يكون حقيقيا وقادرا على رأب الصدع فيمن يعالجه، وتسألين كيف تقبلين خوفك، وأقول لك بأن تعترفي بوجوده وحجمه، ونوعه دون هروب ودون تعارك مع احتفاظك برفضك له إلا أنه الآن موجود، حين تفعلبن ذلك بصدق من داخلك ستتمكنين من تدبر أمره بتؤده وتدرج، ويكون ذلك في نفس الوقت بوابة جديدة لك للتعرف على نفسك الحقيقية المدفونة تحت الرفض، والخوف، والألم، والأحلام، والغضب؛ فكل ما نقوم به بسبب الخوف هو جزء مزيف منا، وكلما تمكنا من قبول خوفنا كما فسرت، وتعاملنا مع خوفنا بشكل صحي؛ كلما اقتربنا من ذواتنا الحقيقية كما هي، وهذا جزء من اجابة سؤالك الثاني عن حقيقة نفسك.
دمت صديقة نبيهة، وكاتبة متميزة.
ويتبع >>>>: الفراشة حصرياً... ومساحة اللاقرار م8