وساوس العقيدة والأحكام ع.س.م.د RCBT الوسواس القهري الديني21
ثانيا المحتوى التعبدي
المحتوى التعبدي هو المتعلق بأحكام العبادات وما يميزه عن وس.وق. العبادات هنا هو التعمق -التعمق في الإحسان أو في التحاشي أو في السؤال-حين يظهر في شدة الأعراض وتطرفها، إضافة إلى عدم قدرة المريض بعد التنوير المعرفي فقهيا وسلوكيا على تجاهل الوساوس والمضي في العبادة، بسبب معاييره المفرطة ورفضه الأخذ بالرخص رغم اعترافه بأنه مريض (ويختلف بالتالي عمن يفشل في الأخذ بالرخص لأن الوسواس يشككه في استحقاقه لها)، ولذلك صور كثيرة منها مثلا
1- التعمق في السؤال:
ولعل أشهرها هو تحري الطهارة، وهو من أشكال التعمق في تحاشي النجاسات مثل السؤال عن طهارة الشيء دون وجود علامة نجاسة ظاهرة، وكذلك فرط السؤال عن كمال تطهير الشيء كالملابس أو السجاجيد وهل يكفي تطهيره مرة أم 3 مرات أم أكثر، والسؤال مثلا عن طهارة مكان قبل الصلاة إذا مر من فوقه حيوان أليف أو صبي صغير إذ ربما تكون نجاسة عالقة به لأنه يمشي في الحمام حافيا، أو مثل السؤال عما بقي من نجاسة مثلا على الملابس بعد غسلها أو سور الشرفة أو الشباك لاحتمال تعرضها لروث الطيور!، والتساؤل عن طهارة الماء المتساقط من المتوضئ نفسه على عضو تم غسله من قبل، وكأن الماء الطهور ينجس بسبب استخدامه في الوضوء!.... أيا كان الوسواس المتمثل في الشك في النجاسة فإن القهر الذي يليه يكون السؤال عن الطهارة وفي أغلب هذه الحالات لا يكتفي الوسواس بمجرد دفع المريض إلى السؤال (دون داعٍ شرعي) عن الطهارة، وإنما يغلب أن يدفعه إلى تحاشي ما يشك في نجاسته أو تطهيره غسلا بالماء، أي أن عندنا بعد قهر السؤال قهر التحاشي وربما قهر الغسل وفي كل منها يبرز التعمق القهري في سلوك المريض، ومن أمثلة التعمق في السؤال أيضًا التعمق والتشدد في تحري الحلال والحرام في الرزق، وفي المأكول والمشروب بالأسئلة والأفعال، كذلك التعمق في الأسئلة الفقهية الخلافية مثل كثرة السؤال والاستفتاء عن حكم الأمور الخلافية، وفرط التفاعل مع الاختلافات وعواقب اتباع رأي غير صحيح. كذلك السؤال عن حكم أشياءٍ مسكوت عنها، أو نادرًا ما يخطر السؤال عن كونها حلالاً أو حرام؟ وغالبًا بعد الرد يضع الموسوس تخمينات وافتراضات تؤثر على الرد؛ بما قد يدفع المُستفتَى إلى التحريم بعد التحليل.، ومن الأمثلة أيضًا السؤال عن قضايا فقهية مبنية على الشاذ أو غير المعتاد من الأمور.
وكثرة الأسئلة بوجه عام قد ترتبط بكثير من أحوال الإنسان وأوضاعه المختلفة، لكنها عند البعض تكاد تكون سلوكا دائما يوصف به الشخص منذ طفولته، وترتبط عند آخرين باضطرابٍ نفساني كاضطرابات القلق والوسواس القهري ونقص الانتباه وفرط الحركة.... إلخ، حيث تكثر الأسئلة وتتكرر إما طلبا للطمأنة وإما بسبب خلل الانتباه أو التركيز، لكن التعمق في السؤال ليس فقط كثرة الأسئلة، بل الأهم هو هدف السؤال، فالسؤال إما أن يكون طلبا لمعرفة مفيدة أو لازمة أو طلبا للطمأنة أو لامتحان المسؤول، لكن أسئلة المتعمق في السؤال لا تكون طلبا لمعرفة مفيدة، ولا تكون طلبا للطمأنة (إلا نادرا وتكون طمأنة لا لزوم لها كما في تحري النجاسة) ولا تكون حتى فضولا -لمجاوزتها حدود المعتاد من الفضول- بل هي غالبا ما تبدو سؤالا لأجل السؤال واسترسالا في ذلك سؤالا من سؤال، وتصاحبها قناعة قوية بأهمية السؤال، وربما نوع من الإعجاب بالسؤال وفكرته الفريدة أو العويصة والتي تحير المسؤول أو تعجزه عن الرد، ويبلغ ذلك حد الاستعراض بذلك السؤال وباستنباط السؤال من السؤال، وغالبا ما تتعلق مواضيع تلك الأسئلة بالغيب كأحداث اليوم الآخر أو بالجنة أو النار أو المسائل الفقهية الخلافية، وهذا العرض أسميه المتعمق المتنطع!
وفي بعض الأحيان يبدأ المتعمق في السؤال الأسئلة طلبا للمعرفة فإذا تلقى الرد الأول أقنعه الوسواس بضرورة تكرار السؤال لأجل الاطمئنان إلى الرد الأول، وهكذا يكرر السؤال طلبا للطمأنة فلا تزيده الطمأنة المتكررة إلا شكا في اطمئنانه، فيبقى يكرر سؤال أهل العلم فأحيانا يشك فيما سمع أو قرأ وأحيانا يجد تناقضا بين الفتاوى أو اختلافا فيدفعه ذلك إلى تكرار السؤال للوصول إلى إجابة فاصلة وهكذا... وهذا العرض أسميه المتعمق الخواف ويمكن أن تناسبه تسمية الاستفتاء القهري أي طلب الفتوى القهري لأن أسئلته دائما تبقى لطلب الطمأنة إما شكا في الإجابة السابقة أو في استيعابه هو لها، لكنه لا يسأل لأجل السؤال أو الاستعراض كما في حالة المتعمق المتنطع.
2- التعمق في إحسان العبادة:
ويقصد به الإفراط في إحسان العمل التعبدي وصولا إلى اكتماله 100% ومنه التعمق في طقوس طهارة الجسد أو الإسراف أو التعمق في الاستنجاء (وصولا إلى إحداث أذى جسدي) أو الوضوء أو الغسل أو تكرار الصلاة، وكذا التعمق في الصيام إلخ.، أو إخلاصه 100% ومنه التعمق في النية والتلفظ بها والشك في خلاصها لله، ومنه أيضًا الإسراف بشكل خاص في الغسل من الجنابة: من الناس تجده يتعب تعباً عظيماً عند الاغتسال، في إدخال الماء في أذنيه، وفي إدخال الماء في منخريه، وكل هذا داخل في قول الرسول عليه الصلاة والسلام: ((هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ)) قالها ثلاثًا. رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود.
وأما صور وس.وق. التعمق في الوضوء ورغم كونها تعطي كلها ناتجا نهائيا هو الإسراف في الماء وتضييع الوقت والجهد إلا أن التحليل السلوكي لكيفية وضوء المريض، وأسباب صعوبة الوضوء بالنسبة له وكذلك طريقة تعامله مع تلك الصعوبة أي ما هي الاحتياطات التي يلجأ لها لتخفيف معاناته، كل ذلك من الأهمية بمكان لتحديد وتوجيه استراتيجيات العلاج، وما يميز هذا النوع من الوس.وق. هو ما يكمن خلفه من نزوع كمالي مرتفع المعايير لما يجب أولا... أن يكون عليه الشخص ليصح له أن يتوضأ، وثانيا ما يجب أن يتحقق في ماء الوضوء (التأكد من طهور الماء وكفايته للوضوء)، وثالثا لما يجب أن يكون عليه أداء الوضوء نفسه.
فأما أولا فهي المتعلقة بوس.وق. البدايات في الوضوء أي التعمق في النية و/أو في التسمية بوضع شروط معينة غالبا ما تكون صعبة التحقق، بما ينتج عنه الشعور بعدم الصحة وضرورة التكرار وهناك من عاني من تغير النية أثناء الوضوء... إلخ.، لكن من المهم بيان أن ليس كل موسوس في بدايات الوضوء متعمقا وإنما المتعمق هو الذي يصر على شروطه بعد معرفته بأن (النية للوضوء لا تجب عند الحنفية وأن التسمية للوضوء لا تجب إلا عند الحنابلة وأن على الموسوس انتقاء الأيسر من المذاهب) أي أن بإمكانه الوضوء دون نية ودون تسمية فأما أكثر الموسوسين في بدايات الوضوء فيكفيهم هذا بينما المتعمق يأبى إلا أن يتعمق ويرفض الأخذ بالرخصة ليس لخوفه أنها لا تصح له وإنما لعدم اقتناعه بأن الوضوء يجوز دون نية و/أو تسمية.
وأما ثانيا فهي الوس.وق. المتعلقة بالماء المستخدم للوضوء فتبدأ بالتشكك في طهور الماء وصلاحيته للوضوء وفرط السؤال عن ذلك ويحدث ذلك عادة عند وجود المريض في بيئة مختلفة عما اعتاد أو أثناء السفر فيسأل ويعيد السؤال، وهناك من يشترط وجود قدر معين من الماء ليكفيه في الوضوء وقد لا يكون الماء متاحا وهكذا وهناك من تصل به حرفية التفكير إلى السؤال عن طهارة الماء المتساقط من المتوضئ نفسه على عضو تم غسله من قبل، وكأن الماء الطهور ينجس بسبب استخدامه في الوضوء!...
وأما ثالثا فهي الوس.وق. المتعلقة بأداء الوضوء فتشمل الإسراف في استخدام الماء وتكرار الغسل كما تشمل فرط التركيز والتدقيق وما يمكن تشبيهه بتتبع سيلان الماء والتأكد من إصابته العضو، وتكرار الدلك، وتجد شروطا يضعها المريض ولا يحيد عنها مثل (ضرورة رؤية الماء بالعين وهو يصيب العضو أثناء الوضوء) ومثل (ضرورة تكرار وضع العضو تحت الماء أكثر من مرة أو عدد معين من المرات) ومثل (ضرورة العد أثناء الغَسل في الوضوء) ومثل (لا يمكن الوضوء من حنفية تنزل كمية قليلة من الماء) وهكذا...
وأما صور وس.وق. التعمق في الصلاة فهي نفس صور وس.وق. الصلاة المعتادة (غير التعمقية) لكن الفرق يكمن في شدتها الواضحة، وفي الخلفية المعرفية مفرطة التشدد ورائها، ثم في عجز المريض -رغم التنوير الفقهي- عن اتباع الرخص والإصرار على شروطه، ومن أمثلة ذلك (ضرورة إعادة ضبط اتجاه القبلة قبل كل صلاة) و(ضرورة التثبت من دخول وقت الصلاة وانتظار سماع الأذان من مصدرين أو أكثر) و(عدم الصلاة في مكان به صوت أو شخص) وأيضًا (ضرورة ترديد صيغة النية للصلاة، جهرا أو سرا) و(ضرورة التأكد من نقاء الحلق وعدم وجود بلغم يؤثر على النطق في الصلاة) و(ضرورة الانتباه للحركات أثناء الصلاة) وكذلك (ضرورة الانضباط الجسدي والذهني المفرط أثناء الصلاة) و(ضرورة الانتباه لمخارج الحروف بشكل حقيقي ويقيني) فتراه يدقق في كل حرف أو كلمة ينطقها وكل فعل يفعله أثناء الصلاة، وغالبا ما يصلي مشدود الجسد، وأيضًا (ضرورة محاولة التذكر بعد الشرود في الصلاة) وهذه المحاولة غالبا ما تؤدي إلى الشك في الذاكرة والشرود وأخيرا قطع الصلاة ثم إعادتها، وأيضًا شروط مثل (ضرورة الحفاظ على توازن الركعات).... إلخ.
وأما صور وس.وق. التعمق في الصيام فإنها كما في حالة الوضوء والصلاة لا تختلف ظاهريا عن وس.وق. الصيام المعتادة (غير التعمقية) وإن اختلفت من حيث دوافعها وشدة السلوك التعمقي المميز لها، كذلك فإن وس.وق. التعمق في الصيام تكاد تقع ضمن شكلين فقط من وس.وق. الصيام هما وس. وق. التهيؤ للصيام، وثانيا وس. وق. حفظ الصيام وهما الشكلان المشتركان في فرط التحاشي (وهو التحاشي الذي يراه الصائم الصحيح مفرطا) والاستعداد والتأهب والاستشعار، وأما وس. وق. بطلان الصيام فغالبا ما تأخذ صورة الشك والسؤال طلبا للطمأنة، أو الشك ومحاولات التذكر القهري (ابتلعت لم أبتلع؟ شربت قبل أذان الفجر أم بعده؟!) وغالبا أيضًا ما تكون عابرة متغيرة.
ورغم أن عبادة الصيام هي من أيسر العبادات إجرائيا مقارنة بالوضوء والصلاة وغيرهما من العبادات، فلا أحد يسأل كيف يمتنع عن الأكل والشرب والجنس أي لا أحد يحتاج أن يتعلم كيف يصوم أو يسأل عن صفة الصوم، رغم ذلك فإن التعمق يجعلها من أصعب العبادات أداءً، فإذا نظرنا إلى وس. وق. التهيؤ للصيام التعمقية نجد بعد السحور من يفرط في المضمضة وتنظيف الأسنان إلى الحد الذي قد يجرح اللثة! (وهو ما يضيف إليه وس.وق. إبطال الصيام بسبب نزيف الفم) ونجد من يتفل بشكل متواصل بعد السحور ومن يجفف الفم بالمنديل من الداخل!، ومن يمتنع عن الطعام والشراب قبل أذان الفجر بأكثر من ساعة، وهناك على العكس من يفرط في الأكل و/أو الشرب حتى يؤذن الفجر مخافة أن يضطر للإفطار بسبب الجوع أو العطش....إلخ.، فإذا بدأ الصيام بدأت وس.وق. حفظ الصيام فنجد من يعاني من (ضرورة التركيز مع التنفس والبلع في نهار رمضان خوفًا من أن يكون هناك شيء) ومن تعاني وأسرتها من (تجنب دخول المطبخ أثناء الصيام دون خوفٍ من استنشاق رائحة أو التفكير في الإفطار) ومن يعاني أو تعاني من (تجنب دخول الحمام في نهار رمضان دون خوفٍ من دخول الماء عبر الدبر)، وتجد من (يمتنع عن الخروج من بيته في نهار رمضان غضا للبصر لأنه مثلا يسكن في السوق، حتى وإن ترتب على ذلك ترك صلاة الجمعة في المسجد)، وتجد من تخاف من النظر إلى زوجها في نهار رمضان، كما نجد من تتحاشى النظر إلى ماء الصنبور فتغسل الأطباق وهي تنظر في اتجاه آخر، وتجد من يكثر أثناء الوضوء في الصيام من الاستنثار والبصق أكثر من مرة للتأكد من عدم وجود شيء (أحيانا رغم تحاشي المضمضة)، ومن يخاف من ترك الماء على الوجه في الوضوء حتى يتم وضوئه كيلا يدخل الفم أو الأنف في الصيام، وهذه الصور من صور التعمق في الصيام في مرضى اضطراب الوسواس القهري تختلف عن صورة التعمق في الصيام المعروفة في كتب الحديث وهي صيام الدهر أي الصيام يوميا والوصل أي صبام يومين متتاليين دون إفطار، ولعل هذي أمثلة التعمق في أصحاب الشخصيات القسرية.
3- التعمق في الإكثار من العبادة:
ويشمل التعمق في العبادات التطوعية كالقيام والصيام وفي إخراج الصدقات وفي النذور وفي التكفير عن الأيمان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.... إلخ. ففي غمار شعور مرهف بالخوف من الذنب أو الخطأ أو التقصير عادة ما يلجأ مريض وسواس الذنب إلى التشدد والتعمق أكثر في عباداته لمناجزة مشاعر الذنب الديني أو الأخلاقي التي تستفزها الوساوس المستمرة، فيلزم نفسه بأداء واجبات دينية أو نوافل أو أفعال خيرية كالصدقة والتطوع بإفراط ويبالغ في ذلك ويشدد على نفسه كما وكيفا ويثقل يومه بالالتزام بأوراد تلاوة يومية أو صلوات ويعجز عن التخفيف على نفسه مهما كانت الظروف فإن حاول هاجمته الوساوس بأنه لن يغفر لنفسه هذا التقصير وأنه أصبح يقدم أمورا دنيوية على دينه، ... إلخ، وعادة ما يكون المريض مقرا بأن استسلامه لرغبته في التعمق يفسد حياته الدينية بدلاً من تحسينها، لكنه رغم ذلك عاجز عن عدم التعمق، ويفكر أغلبهم بطريقة "ما دمت أستطيع فيجب عليَّ أن أفعل"، وليست يجب هنا بمعناها الشرعي وإنما يوجبها الموسوس على نفسه، بالرغم من أنها ليست من الواجبات الشرعية التي تجب على المستطيع، بل هي من السنن أو النوافل المستحبة التي تسنُّ للمستطيع، ولا تجب عليه، إلا أن الموسوس لا يفرق بين الواجب والسنة أو المستحب ما دام يستطيع، وتكون النتيجة أنه يجعل الحياة شاقَّة عليه، بينما عباداته -للمفارقة- تتعبه ولا تكاد تمنحه شيئًا من الراحة!
وهناك أشكال أخرى من التعمق في العبادات كالتعمق في الدعاء أو الاعتداء في الدعاء بالمعنى الذي يشير إليه الاعتداء في قوله تعالى ((ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)) [الأعراف:55]، وقد تقاربت أقوال العلماء في بيان معناه الـمـتـعلق بالدعاء حول مجاوزة الحد في الطلب أو التفصيل... إلخ، وتارة يكون الاعتداء في الأداء والطريقة، وتارة يكون في الألفاظ والمعاني، ويتفرع عن ذلك أمور كثيرة، مجالها الفقه لا الطب النفساني.
ويتبع>>>>>: التعمق في العبادات ع.س.م.د RCBT الوسواس القهري الديني23
واقرأ أيضًا:
استشارات وسواس العقيدة / استشارات عن التعمق القهري!