إغلاق
 

Bookmark and Share

شباب الجنة: مشكلة وحلها (2) ::

الكاتب: طيبة الطيبة
نشرت على الموقع بتاريخ: 16/08/2005

شباب الجنة: مشكلة وحلها (1)

عدت إلى البيت و رجوت أمي ان تعطيني ألف ريال للتبرع, ربما تستغربون جرأتي هذه , و لكن الحقيقة أنني لم أكن اعرف القيمة الحقيقة للألف ريال وقتها ..

لا انسى نظرات أمي الحنونة و هي تقول لي .. لا يمكن ان أعطيك مبلغ كبير كهذا, و لكن سأعطيك مائة ريال ..

طبعا صمت و أطعتها كعادتي , فمائة ريال أيضا لم تكن بالمبلغ الصغير, و ذهبت في صمت و أعطيت معلمتي المبلغ دون ان يراني أحد من زميلاتي كيف لا يُفتضح أمري و أعطيتها المائة ريال بدل من الألأف التي تحديتهن بها ..

ذهلت المعلمة من المبلغ.. فتاة لا تتجاوز الثامنة من عمرها تتبرع بملغ مثل هذا؟؟.. اخبرتها أن أمي هي من أرادت ان تشاركني بالأجر.. فشكرتني المعلمة.

بعد اسبوع .. انتهى جمع التبرعات .. و فوجئت بالمدرسة في الإذاعة المدرسية تشكر الجميع على تبرعه و تخص الطالبة .. طيبة الطيبة .. على تبرعها بأكبر مبلغ في المدرسة و قدره مائة ريال ..صفق الجميع و عدت أشعر بتحقيق نصر جديد لي بينهن.. و لكن ما إن عدت إلى الفصل حتى تلقتني نظرات الشماتة من زميلاتي و هن يقلن .. أين الألف ريال؟؟

أو أملك الشجاعة لأخبرهن بحقيقة رفض أمي فأخسر التحدي؟؟

أو أملك الفهم و الوعي لأخبرهم أن الريال قد يكون أغلى عند الله من مليون ريال فأنال صفعة من الاستهزاء و الضحك على ذاتي ؟؟

اكيد لا .. فقلت بكل ثقة .. أعطيت الألف ريال لأبلة غالية ..معلمة اللغة العربية..و تمنيت في سري أن اكون قد حللت الموقف..

فإذا بحصة أبلة غالية تبدأ.. و انطلقت الأفواه الصغيرة بكل براءة و بشئ من الخباثة أيضا تعلن للأبلة غالية أنها استلمت مني مبلغ ألف ريال ..فأين هي يا أبلة؟؟

اصفر وجه أبلة غالية احمر .. هي لم تستلم مني شيئا .. و تركت الحصة تنتهي, ثم نادتني جانبا..طيبة؟؟.. هل فعلااستلمت منك مبلغا كهذا ..

إيوة يا أبلة ..

متى يا بنتي ..

في اليوم الفلاني في المكان الفلاني..

طبعا لست بحاجة أن اخبركم أنه كله كذب في كذب..

كنت أشعر ان قدماي تغوصان في بحر لجي قذر.. كنت أحب معلمتي غالية جدا و لا أدري كيف ورطتها في موضوع كهذا ..

أفكر الآن .. ربما لو بكيت معتذرة لها .. كانت ستسامحني ..و لكني كنت أخشى شعور الفشل أمام زميلاتي..

و لم تجد المعلمة بدا من إخبار نائبة المديرة لتبرأ ذمتها ..

و استدعتني نائبة المديرة ..

لا بد أن الخوف و الكذب لاحا على وجهي..

و هي تسألني :من أعطاك الفلوس.. امك ام والدك .. و كيف و متى أعطيتها للمعلمة .. و لماذا لم تقولي هذا في طابور الصباح و و و ..

و أعادتني للفصل .. ثم عادت و استدعتني..

انا كلمت والدك وأخبرني أنه لم يعطكِ أي مبلغ للتبرع .. إذا امسكي المصحف و اقسمي عليه ..

شعرت بعمق الموقف و صعوبته.. و بدأت روحي الصغيرة تأن و تتعب و أنا أحبس مدامعي و لا أدري أين أذهب , فقلت بصوت خفيض .. لا أذكر و الله يا أبلة فاطمة بس أظن إني اعطيت المبلغ لأبلة غالية مش فاكرة بصراحة ..

هنا .. معلمتي الفاضلة هداها الله نظرت لي ترمقني في استحقار شديد لن أنساه ما حييت و هي تقول لي : ما هو شوفي .. يا إما إنتِ كذابة يا إما إنت مريضة نفسيا ..

هزتني الكلمات و بعنف.. و لم أجاوبها بشئ, فقد انهارت روحي بداخلي و تحطمت شجاعتي الصغيرة .. و تركتها تزجرني و تعنفني لأني أستحق هذا ..

و خرجت من عندها برفقة السكرتيرة و المدرسة كلها تنظر لي بفضول تمتزج بالشماتة و أنا أعتذر لأبلة غالية عما بدر مني تجاهها ..

كنت أخشى أن يعاقبني والدي على تصرفي و لكنني أيضا لن أنسى نظرته الحنون و هو ينصحني بكل رفق أن لا أعود لمثل ما صنعت..

أعلم أنني لو حكيت لوالدي عما بدر من نائبة المديرة بحقي لما سكتا, خصوصا أن أمي كانت مدرسة تربوية, و لكن احساسي بالعار و الخجل و أني أستحق ما يجري لي هو ما ألجمني..

ربما لو احتوتني و طلبت مني أن أصارحها بالسبب الذي دعاني لقول ما قلت كي لا أؤذي أبلة غالية.. لما كنت ترددت و لكنت أخبرتها

ربما لو كانت عاملتني كطالبة صغيرة بما يليق بأبسط قواعد التربية و النصح و نصحتني برقة و حزم لكانت وجدت عجينة صغيرة طرية في سنواتي القليلة التي لم تتجاوز أصابع اليدين معا.. فتشكلها على تعليم مبادئ الصدق و الخلق و الثقة بلنفس ..

ربما ..يا .. معلمتي


بعد تلك السنة .. انتقلت إلى مدرسة جديدة , تلك التي مكثت بها حتى التخرج إلى الجامعة ..

هناك , قررت أن أبدأ من جديد, أن ابحث عن ذاتي الحقيقة و أكون أنا التي احلم بها و أسعى لاكتشاف مواهبها, و بدأت فعلا بالمشاركة الجماعية في الفصل لكل نشاط و مشروع..

بدأت أرسم صورة لعالم نقي جميل متدين محب برئ .. و أكتشف في مدرستي و بين صحبتي و على أيدي معلماتي أكثر مما كنت أحلم و أغرب..
و بدأت أتقن فن الخطابة و الإلقاء في الإذاعة المدرسية ..

بدأت أفتح قلبي للجميع و أحب الجميع و أقدم العون للجميع و أصادق الجميع ..

أذكر في يومي الأول في المدرسة , كنت الفتاة الجديدة الوحيدة في الفصل, و لكني نفضت خجلي و قمت لأعين الطالبات على نقل المقاعد الدراسية , لا أنسى وقتها ابتسامة إحدى صديقاتي في وجهي و هي ترحب بي لتشعرني أنني واحدة منهن و لست بجديدة, فكانت هذه أول و أحب صديقة لي .. و لم يمضِ يومان إلا و الفصل كله يحيطني بصداقتهن و احترامهن و ألعابهن و نشاطاتهن ..كنت أشعر أن كلنا سواء .. كلنا يحب بعضنا .. و يساعد بعضنا .. دون أي فرق أو تجريح او تمييز ..

كانت أجمل و أرق و أعذب ذكريات حياتي .. و عمري لم يتجاوز التسع سنوات ..

و بدأت أصقل شخصيتي و ذاتي و روحي .. عبر علاقاتي بمن حولي ..

و من دون مقدمات .. و جدتني في تلك السنة و أنا أولع بالكتب بعدما كنت أظن أن عقلي أصغر من أن يستوعبها .. بل كنت أرهبها لأن أخي فقط من يستحق قراءتها ـ كما كنت أعتقد ـ

بدأت بشئ بسيط من القصص و الروايات التاريخية و العالمية , أتبعته بكتب العلم النفسي و التنمية البشرية التي لم تكن تنتشر في مكتبات العالم العربي في ذلك الوقت , غير اني كنت أجدها في مكتبة جدي الحبيب, فقد كان يحضرها من لبنان قبل الحرب ..

و انتقلت للكتب الدينية و الفلسفية, و أدركت كم هو العالم رحب و واسع و جميل ..

كان كل حرف أقرأه يتجسد في روحي, و يتغلغل في أعماقي ..

و لم أبخل على أحد من أحبتي في فصلي .. فكنت أنصح هذه و أحضن هذه و أهدي هذه من جميل و بديع ما قرأت و سمعت ..

درست و اجتهدت و و لم تخلو لوحة اشرف واحدة من نقش اسمي بين جميع المتفوقين و الناجحين..

أصبحت أتكلم بصوت مسموع و روح قوية واثقة و عين ثابتة , يخالطه الأدب و اللين في مزيج تشربته من معلماتي الحبيبات اللواتي كنا قدورة لي .. فتعلمت منهم الأدب قبل العلم ..

و أبدعت أيما إبداع في فن الخطابة و الإلقاء.. و بتشجيع من معلماتي دفعتني إلى إلقاء كلمة الحضور و التخرج و المناسبات الدينية و الوطنية في كل محفل و مكان , و أصبحت كلمة المدرسة و قلمها و صوتها ..

حتى التقيت بحبيبتي و روحي و رفيقة عمري و نور فؤادي و نسمة هوائي..

رأيتا على ذات الطباع و المبادئ و المثل و الأهواء.. فتوالفت روحينا حتى ما عادت تطيق الفراق.

و انطلقنا في مسيرتنا .. نكملها سوية , و أصبحنا الحضن الدافئ و الكلمة الناصحة لكل أخت و زميلة في المدرسة .. من أرقى المستويات إلى أدناها وأقلها تربية و أدبا..

كثيرا ما كنا نحرم من أن نقضي ساعات الفسحة ( وقت الغذاء) مع بعضنا , لأن الطالبات يتجمعن حولنا و كل واحدة تريد أن تنفرد بإحدانا لتحدثها بمشكلة خاصة بها و تريد نصحها ..

كنا نرقب بعضنا من بعيد وشوق الدنيا يطل من عينانا لنهنأ بساعتنا مع بعضنا, غير أن فخر كل منا بالاخرى و شوقها إلى الثواب باستشعار سمو اارواحنا يصبرنا .. حتى تنتهي الفسحة ..

و نعود إلى مقاعدنا لننهل المثل و معاني العزة و الحب و الكرامة من معلماتنا الحبيبات اللواتي لم يشعرن لحظة بشئ من التميز أو التفضيل عن غيرنا فكلنا سواسية و كلنا ذوات شخصية و مهارة و إبداع ..

نعود إلى مقاعدنا و نحن نحتضن كفانا فرحا و سعادة أن الله يستخدمنا ..و لا نرجوا مثوبة ذلك إلا أن لا يفرقنا أبدا ..

و اوجدنا معنى الإجارة في المدرسة , فكل فتاة ترغب في الخلاص من عقاب الطرد او الفصل من الإدارة , تتطلب إجارتنا و تقول صارخة .. قد استأجرت بطيبة و حبيبتها.. فتصمت الإدارة .. و تجتمع بنا .. و توصينا بما علينا القيام به ( حبيبتي و أنا ) من واجب النصح نحو أختنا التي لم تسعفها ظروفها التربوية بالتخلق بآداب المدرسة العامة ..

و لم ترض المدرسة أن نتخرج منها إلا بعد ان علقت درعين كبيرين يحملان اسمها و اسمي على مدخل المدرسة لنكون قدوة و رمزا لأجيال بعدنا على حد تعبير مديريتي الحبيبة وقتها ..

و انتهت المدرسة .. و سافرت رفيقة دربي إلى وطنها, فلا أراها سوى مرتين كل عام لانعم بحضن كلماتها و دفء مشاعرها, و نشاط روحها و سمو اخلاقها , و عدت من جديد لوحدي ..

و لكني لم اكن أشعر بضعف شخصيتي .. بعد كل هذا .. فحبيبتي كانت معي بقلبها و روحها و لم و لن تتركني أبدا إن شاء الله .. بل تواعدنا على ان ندفن معا في قبر واحد في بقيع الغرقد بإذن الله.

و لكن شعور الخوف من العودة لحياتي القديمة هو ما كان يعذبني ..فبت أشعر بضعف ذاتي و قدرتها على مواجهة الحياة..وحدي

فلا مدرسة و لا صديقاتي و لا إذاعة و لا معلمات و لا ... صديقتي الغالية ..

علمت حينها .. أن مصدر كل نجاح وقوة .. كل ثقة و اطمئنان .. كل سمو و عزة .. لا يأتي إلا بالتعلق بالله وحده .. و لن يتمكن أي امرؤ من استشعار هذا إلا حين يكون وحيدا فعلا لمدة تطول و تطول و تطول عبر السنين.. فكل ما كان سابقا.. لم يكن إلا وسائل دنوية قد سخرها ربي لأتمكن من تكوين شئ بسيط في شخصيتي.. أستطيع الاعتماد عليه في ما بقي لي من دروب حياتي ..

و لكن الله وحده .. هو الذي يمدنا بالقوة و الإرادة و الصبر.. لنأنس به وحده .. فنتمكن عندها من اجتياز أصعب الطرق .. و لو كنا وحدنا ..

ربما تكون نجاحات المدرسة قديمة و آثارها قد زالت في حياتي , و لكني أحب أن أسترجع هذه الأحداث بيني و بين نفسي لان ما حدث ( و إن كان قد زال ) هو ما رسم طريق حياتي , فأشكر الله تعالى على ما أبدلني به .. و غيرني.. من حال إلى حال

حقيقة خجلة منكم كثيرا .. و لكني و الله ما ظننت أن الحديث سيطول بي.. و أعلم أن الحديث سخيف و ممل.. و لكن ما أردت أن نستفيد منه هو ..

1- قد لا يقصر الوالدان في إغداق الحب و الحنان على أبنائهما, و لكنها قد لا ينتبها ان ابنهما بحاجة إلى من يكتشف قدراته فيعينه على صقلها و استثمارها ليعرف قيمته في الحياة.. فكم يعني ها عنده الكثير..

2- الحب و التسامح و الطهر و الصفاء و الصداقة و الضحكة البريئة و الطفولة الرقيقة.. هي أصل العلاقات المدرسية و جمالها ..

3- المعلمون ثم المعلمون ثم المعلمون .. أبلغ من العمر 25 سنة و ما زلت أذكر كل كلمة جارحة و جهت إلي بشكل غير تربوي بلا أدنى رحمة و عطف..و كل كلمة مشجعة ..
كم شخصية صغيرة رُجمت بكلمة جارحة من معلم , هدمت روح إنسان ناضج..و كم كلمة بناءة بنت حياة إنسان ناضج.

4- لا تخجل من الحياة أبدا .. لا تخجل من نفسك و لا من عيوبك و لا من الناس و لا من فشلك و خطأك .. واجه كل ذلك بابتسامة و رغبة صادقة بالتحسن للأفضل ..

5- الحياة جميلة .. إن نحن وسعنا نظرتنا و إداركنا و لم نكتف بالجدران الأربع التي تحيطنا ..

6- لا يوجد ضعف إلا إن اوجدناه نحن بداخلنا .. و لا يوجد فشل إلأا إذا استسلمنا له ..

7- و أخيرا ... الله و لا شئ قبله و لا بعده .. فتعلم سر الكون و قوته ..

نسأل الله العون و القبول..


 



الكاتب: طيبة الطيبة
نشرت على الموقع بتاريخ: 16/08/2005