إغلاق
 

Bookmark and Share

يوميات رحاب: القناعة كنز ::

الكاتب: د.رحاب سيد عبد الله
نشرت على الموقع بتاريخ: 23/01/2005

بسم الله الرحمن الرحيم

دخلت عليَّ مريضة ومعها أخرى تكبرها بأعوام.. كانت تتصارع على شفتيها الابتسامة تارة والاقتضاب تارة أخرى.. ولأني معتادة أن ألقي نظرة سريعة شاملة على مرضاي- من فوق لتحت كما يقولون- وجدت كفيها بلا أصابع.. وكذا أقدامها.. كما أني للحظة الأولى تبينت عيبا في توجه مقلتيها اتجاها متماثلا.. استمعت شكوتها، فكانت من ترافقها تقاطعها مرارا وتحكي بدلا عنها في شغف واهتمام.. ثم استلقت لتوقيع الكشف عليها.. ووجدتها تعاني أمورا أخرى تواريها الثياب.. وكنت أسألها عن تاريخ كل ذلك المرضي فكانت ترد هي ومن ترافقها بابتسامات..!! قلما رأيت مثيلها من صاحب وعكة واحدة فما بال من صاحبة وعكات!!

ثم لا أدري لماذا سألتها ما إذا كانت متزوجة أم لا.. فأجابت نعم متزوجة وزوجي في الخارج.. وهذه أمه، قلت في نفسي: مش معقول.. دي حماتها؟؟.. ثم أردفت: سأسألك سؤالا صريحا سيدتي الفاضلة.. ألم تجدي ما ينحيك عن زواج ولدك بغاليتنا هذه؟؟ قالت: لا.. دي بنت حلال وطيبة وعايزة تعيش وراضية بقليلة وآيده ضراضير صوابعها شمع علشان الواد.. وهالكة نفسها علشانا كلنا.. دي هدية من السما.دي...دي...

في تلك الأثناء سرحت محدثتكم.. متفكرة في هذا المشهد.. الذي قلبت فيه قوانيننا الوضعية رأسا على عقب.. فالبنت شكلا صفر.. ولكن روحا.. جميلة الجميلات.. عطاءة بلا حدود.. ربما تكتفي من زوجها وأهله بكونه زوجا وكونهم أهل.. الوضع الذي ترفضه الكثيرات.. وتلك الحماة.. هي فعلا حماية.. فقد حسبتها وللوهلة الأولى والدتها من كثرة الاهتمام بها والاغتمام من أجلها وت
لك الشفتان التي صرعت فيهما الابتسامة الاقتضاب.. الذي كان بسبب ما ألم بجسدها النحيل من آلام.. فدامت الابتسامة ونام الاقتضاب..

ثم أفقت على سؤالها لي بشأن مرضها.. فأجبتها ثم قبعت أداعبها بكلماتي محاولة أن أتعرف على الكيفية التي تعيش بها هذه السيدة.. فقالت لي.. عارفة رجل الحمار؟؟ فأجبتها مازحة: لا.. أعرف الحمار كله..!!
فقالت..لا.. هذا مثل شعبي قائل: الشاطرة تغزل برجل حمار
..

قلت: آه.. وأنت هذه الشاطرة.. أكملت: الحمد لله.. أصنع كل حاجة في البيت.. ومريحة أمي تقصد حماتها وبناتها.. وبعمل... وبعمل..
رددت.. ما شاء الله.. يا بنت الحلال.. بارك الله لك.. ولزوجك..

ثم سألتها أخرى مداعبة.. مش خايفة جوزك يجوز عليك علشان عيانة؟؟ قالت: لا يمكن يا دكتورة..
إلي يحب لا يمكن يزهأ من الي بيحبو.... ناديه يا أما علشان الداكتورة تشوفو.. ودخل زوجها وإذا المفاجأة
الرجل على كرسي عجل.. وقد تلاشت أطرافه.. أكلها الرصاص السائل في مصنع البطاريات الذي كان يعمل به، هذا ما عرفته منهم بعد ذلك..

دخل ملهوفا للاطمئنان على زوجته.. فقلت له ما أراد.. وكانت لهفته جوابا اكتفيت به عن سؤالي السابق ووجدتهما هذا يقبل رأسها وهذه تقبل يداه.. والحماة تربت على الاثنين..
نظرت في ساعتي.. الوقت والتاريخ

خرجت طالبة إحدى العاملات لدي لربما يكون حلما.. أو نحن في زمن غير الزمن.. أو هؤلاء مخلوقات عجيبة جاؤوا إلينا من كوكب آخر..؟؟؟؟؟؟؟؟!!!!!!!!! ولكن كل شيء تمام.. اليوم كذا والتاريخ هو كذا وأنا أنا وهم بشر..
ولكن ما وصل إلي.. أننا نعيب زماننا والعيب فينا... وما لزماننا عيب سوانا..

كم هو الحب جميل.. هؤلاء الناس لم يقل الواحد فيهم للآخر: أحبك.. بل الأمر متروك للعمل يصدق الإحساس، وبصدق هذا الأخير بلغ الشعور العقل والقلب فاكتفيا بهذا على ما فيهما من إعاقة..

لا.. بل نحن من نعاني من إعاقة.. من لم يتمتع بمثل هذه الروح.. من لم يتزين بهذا الصبر الجميل..  من لم يذق هذا الحب.. من لم يصدق حبه عمله.. من لم يرضى بمعطيات الله له ويجده نفسه غنية بما لديه وليست فقيرة لما لدى غيره...... هذا هو المعاق..

في ختام لقائي بهم
شكرتهم.. وحمدت الله للقائهم.. فقد أخذت درسا اليوم.. لن أنساه .. وقبعت أدون لقائي هذا وأقول..
من غريب من قابلت..

 واقرأ أيضًا :  القضية



الكاتب: د.رحاب سيد عبد الله
نشرت على الموقع بتاريخ: 23/01/2005