إغلاق
 

Bookmark and Share

السـنوات الأولـى للطفولــة: الرضيـع ::

الكاتب: أ.د عبد الرحمن إبراهيم
نشرت على الموقع بتاريخ: 19/08/2008


المنظور الاجتماعي التربوي

معلومات الطب النفسي
لا بد من التحدث عن بعض المعلومات التي نتعامل معها قبل الخوض في هذا المجال، فالطب النفسي الحركي Dynamic psychiatry عمره فاق 120 عام بقليل، والكثير من نظريات تطور الإنسان اعتمدت على ملاحظات الأطباء المعالجين للحالات المرضية، وهذا أحد مصادر المعلومات، ورغم كونه مصدراً قيّماً لكنه محدود ويعتمد على دراسات تعود لماضي المريض Retrospective وفيه نفترض حدوث خطأ ما في تطور المريض والذي ظهر فيما بعد على شكل صعوبات خاصة (أي المرض).

أما المصدر الثاني للمعلومات والذي أصبح مسيطراً خلال العقود الخمسة الماضية، فهو الملاحظة المباشرة، إذ أمضى الباحثون سنوات في دور الحضانة وفي زيارات إلى المنازل مع مراقبة طويلة للحمل ووصفوه كما وصفوا سلوك الرضيع والطفل في مختلف الأعمار وبذلك تم إضافة نماذج للسلوك الطبيعي إلى الملاحظات المأخوذة من المرضى (أي المصدر الأول للمعلومات).

والمصدر الثالث للمعلومات هو الأبحاث Research؛ والأبحاث عن الأشخاص محدودة جداً لأننا لا نريد التسبب بأي أذى للجنس البشري وعلينا فقط أن نعتمد على الحوادث الطبيعية وعلى الظروف التي حدثت دون تدخلنا، ولدراسة تأثير هذه الحوادث والظروف على التطور.ومثال على ذلك الدراسات حول الأطفال اليتامى أو الأطفال الذين أرسلوا لخارج لندن خلال فترة الحرب العالمية الثانية. هذه الدراسات التي لم يكن مخطط لها أن تكون تجارب لكنها بنظر الباحثين تحوي جميع شروط التجربة. وشكل آخر للأبحاث هو التجارب المحددة المسيطر عليها limited control expernment والتي لا تؤذي الطفل مثل إسقاط كتاب لإحداث ضجيج مرتفع وملاحظة استجابة الخوف عند الطفل، ومثل هذه التجربة لن تؤذي الطفل وبنفس الوقت يمكن أن تكون مصدراً هاماً للمعلومات.

إن المصدر الرابع والأخير للمعلومات هي الملاحظات والتجارب على الأنواع الأخرى من الفقاريات العليا والقريبة الشبه من الإنسان، ومثال عليها التجارب التي أجراها Harry Harlow على أطفال صغار القرود، وفي هذه الأبحاث علينا أن نكون حذرين جداً في تطبيق وإسقاط هذه المعلومات على الجنس البشري.

وآثرت في هذا الكتيب أن تكون المعلومات مستقاة من جميع المصادر السابقة التي ذكرت إضافة إلى ملاحظاتي وخبرتي الشخصية.

فترة ما قبل الولادة
في دراسة تطور الأطفال علينا أولاً أن نتعامل مع المواهب الفطرية البيولوجية ومع المحيط وهذا الأمر صحيح حتى قبل الولادة، فالرضيع حتى وهو في الرحم له نموذج تطوري معقد خاص به، نموذج يؤدي لكونه عنصراً بشرياً فريداً له القدرة على تكوين صفات لا يملكها الجنس غير البشري بنفس الدرجة. إن طبيعة الذكاء عنده مثلاً والقدرة على الاتصال مع الآخرين تختلف عنها في الأنواع الأخرى. كما أن المورثات الخاصة بكل شخص لا تحدد فقط بعض الصفات مثل عيون زرقاء أو أصابع طويلة بل أيضاً تحدد خطة العمل من أجل التطور Development عبر مراحله الطبيعية، فليس من قبيل الصدفة أن يستطيع الطفل الزحف Crawl قبل أن يستطيع المشي أو يتعلم المشي قبل أن يتمكن من ضبط مصراته.

والطفل في الرحم يكون موجوداً في وسط انتقائي، وسط يحميه جيداً، حيث مستوى التنبيهات stimulation قليل جداً رغم قدرة الطفل على الاستجابة لها بمنعكسات أساسية "Basic" مثل المص أو الرفس Kicking ، كما أظهرت وسائل مراقبة الجنين مثل الأمواج فوق الصوت أو منظار الجنين Fetoscope أظهرت أن أربعاً من الحواس (بصرية، سمعية، ذوقية، حسية) تعمل قبل الولادة، وأكثر من ذلك فإن الطفل قبل الولادة يمكن أن يتعلم الاستجابة الشرطية coditioned على تنبيهات خاصة، ويبدو من الدقة بمكان القول أن التعليم الشرطي يبدأ فعلياً منذ وجود الطفل جنيناً في رحم أمه.

إننا نتعلم أن الطفل في الرحم يمكن أن يتأثر بعدة أمور، مثلاً إذا أصيبت الأم خلال الأشهر الثلاثة الأولى بمرض فيروسي مثل الحصبة الألمانية فإن ذلك يمكن أن يؤدي لإصابة الجنين في قلبه أو دماغه أو أعضاء أخرى. وإذا كانت الأم مصابة بداء السكري فإن ذلك سيؤثر على بنية وتطور الطفل بشكل مختلف على الشكل السابق، ومثل ذلك صحيح إذا كانت الأم مدمنة على المخدرات. إن هذه الأمور حالياً مجال لأبحاث مكثفة لأحداث لا نعرف عنها الكثير، ونتوقع أن هناك الكثير من العوامل التي تؤثر على الجنين والتي لا نعرفها حتى الآن وفي النهاية فإن دم الأم يذهب إلى الجنين عبر المشيمة والحبل السري وهذا يعني أن أي شيء يؤثر على محتوى دم الأم يمكن أن يؤثر على الجنين لدرجة أن البعض يعتقد أن مجرد قلق الأم وارتفاع تركيز الستيرويدات في دمها سيؤثر على الجنين، وهذا الأمر لا يزال تحت الدراسة لكنني أستطيع القول أن الحالة العاطفية للأم تنتقل بطريقة ما إلى الجنين خلال تطوره في رحمها.

الولادة
توجد نظريات رغم كونها أقل إقناعاً عن تأثير عملية الولادة على الوليد، والكثير من المناقشات دارت بين الباحثين والعلماء حول هذا الأمر، ونشأت الكثير من النظريات غير المؤكدة والمسهبة حول الأذية الولادية Birth trauma . وما يمكنني تأكيده أن ما نعرفه في الوقت الراهن وفق أحدث الدراسات والأبحاث المعاصرة إن قدرة الوليد على الإدراك لا تسمح إلا بقليل من الوعي الشعوري conscious awarenes لما يجري أثناء الولادة.

إن طبيعة عملية الولادة يمكن بالطبع أن تؤثر على التطور عندما تنحرف عما نعتبره ولادة طبيعية، وبما أن جميع المجتمعات تقريباً أصبحت تسعى نحو التقدم التكنولوجي فإنها جعلت عملية الولادة تعتمد على التكنولوجيا أكثر فأكثر كاستعمال التخدير الذي إذا اجري بطريقة غير صحيحة يمكن أن يؤثر على الطفل ويحدث عنده درجة من نقص O2 وبالتالي تؤثر على عمل الدماغ (عدا عن التأثيرات الأخرى للتخدير). واستعمال ملقط الجنين بطريقة غير صحيحة يمكن أن يحدث أذيات عضوية في الدماغ.

إن ما نعرفه عن الولادة الطبيعية هي أنها تجربة تؤدي لتغيير هائل في درجة التنبيهات التي يتعرض لها الطفل، تغيرات من محيط ثابت وحرارة منتظمة وغياب للضياء وتنبيهات حسية بسيطة إلى العالم الخارجي بتنبيهاته الكثيرة. ومعظم الأطفال سيجابهون هذه التنبيهات بعد الولادة بقليل بالبكاء، فهو أحد الطرق التي يستجيب بها الوليد لهذه التنبيهات الجديدة عليه، وبالولادة يكون الأطفال قد أتمّوا تسعة أشهر من التفاعل مع وسطهم داخل الرحم. من المعلوم أن الطفل يولد ويعتبركائناً معتمداً على الآخرين إذ أنه أقل قدرة على الاعتناء بنفسه مقارنة مع صغار الحيوانات الأخرى، والطفل البشري غير ناضج نسبياً immature حين الولادة وسوف تستغرق وظائفه الحيوية وقتاً حتى تكتمل.

المنعكسـات وحالات التوتـر
إن الوليد له عدة صفات خاصة به، وهو يسجل المنعكسات وحالات التوتر البيولوجية Biolojical Tension State ؛ فإذا نبهنا وجنة الطفل فسيدير رأسه باتجاه اللمس وهذا ما يدعى منعكس الجذر Rooting Reflex ، وإذا وضعنا شيئاً في فمه فسوف يمصه: منعكس المص sucking، وهذان المنعكسان يساعدان في التغذية. وهناك مجموعة من المنعكسات الأخرى الموجودة عند الطفل منذ الولادة وهي تساعده بدرجة أو أخرى على التأقلم مثل منعكس Moro (منعكس الخوف Startle) الذي هو إبعاد الأطراف مع عطفها استجابة لتنبيه فجائي، ومثله أيضاً منعكس سحب الطرف حين تعرضه لتنبيه مؤلم وأيضاً منعكس الحدقة فإذا كان الضوء المسلط على العين شديداً فإن الطفل سيغلق عينيه.

ومن المنعكسات الأخرى المساعدة على التأقلم من شكل أقل من السابقة؛ منعكس الإطباق في راحة اليد فإذا وضعنا إصبعنا في يد الوليد فإنه يطبق عليه وهذا المنعكس يدعى منعكس الأب Daddy ,s reflex حيث أن عمله الوحيد عند الإنسان هو جعل الأب يشعر بالسعادة حيث أنهم يعتقدون أن طفلهم قد تعرف عليهم ولكنه منعكس هام جداً في الأوليات حيث يتم التمسك بالأم بواسطة هذا المنعكس. ومن المنعكسات الأخرى القليلة الأهمية بالنسبة لتأقلم الطفل منعكس بابنسكي، فإذا ضربنا أخمص القدم بطريقة خاصة فإن الأصابع تنبسط بشدة وتبتعد عن بعضها عكس ما يحدث عند الراشدين (عطف وتقريب الأصابع)، وهذه العلامة تدل على خلل عصبي عند الراشدين لكنها طبيعية عند الوليد عدة أشهر حيث تنقلب بعد ذلك لنموذج الراشدين.

وبجانب هذه المنعكسات فإن الطفل يولد مع حالات توتر بيولوجي فالطفل له احتياجاته Needs فإذا لم تلبى هذه الاحتياجات فإنها ستؤدي لزيادة التوتر وسوف يفرّغ هذا التوتر عند الوليد بالبكاء. وحالة التوتر التي ترد على الخاطر مباشرة هي حالة الجوع (إن استعمال كلمة الجوع هنا ليس دقيق) فالطفل لا يعرف أنه يريد أن يأكل فما يحدث أنه حين ينخفض مستوى السكر في دمه لدرجة كافية يدخل الطفل في حالة توتر ويبدأ في البكاء لكنه لا يعرف- بالطريقة التي نعرفها نحن- سبب بكائه، وسوف نتحدث لاحقاً عن الطريقة التي يخفض بها الطفل توتره هذا.

الاختـلافات بين الولدان.
جميع الأطفال مزودون بنفس الحاجات البيولوجية والمنعكسات، ولكن يوجد اختلاف واضح بين الرضع مثلاً هناك فرق شاسع في درجة عتبة التنبه عند كل طفل فبعضهم يكون من السهل إيقاظه بالضوضاء أو بالضوء أو باللمس بينما آخرون سيتابعون نومهم رغم هذه التنبيهات، وربما كان للطفل نفسه استجابة مختلفة على هذه التنبيهات المختلفة. ويولد الأطفال أيضاً مع اختلاف بدرجة حساسية الجملة الذاتية عندهم فإذا عرَّضنا الطفل لمؤثر معين ثم راقبنا عدد دقات القلب وحرارة الجلد ومعدل التنفس،.. فإننا نرى اختلاف الاستجابة بين الأطفال للتنبيه نفسه وبعضهم استجابته ثابتة بينما آخرون استجابتهم متغيرة من وقت لآخر.

ويختلف الأطفال أيضاً فيما يسمى درجة التنبه Level of Alertness إن معظمنا يعتقد أن الطفل يمضي وقته بين النوم والأكل، لكن الأبحاث المعاصرة بينت وجود حالة يقظة Level of alertness وخلال حالة اليقظة يكون الطفل مستلقياً ويحاول اكتشاف محيطه، كما أنه في نفس هذه الفترة من اليقظة يستعمل الأطفال قدرتهم على الرد على التنبيهات البصرية. وفترة اليقظة تختلف من طفل لآخر، وهناك فروق أخرى بين الولدان دُرست من قبل الباحثين مثل درجة الفعالية الحركية وسلوك المص والمنعكسات الأخرى وحالة التوتر ومخطط إفراغ التوتر (البكاء) والحالة العاطفية والمزاج.

الخرافات حول الولدان
كنا نعتقد في الماضي أن الوليد هو عنصر منفعل وكائن غير متمايز، يتصرف من أجل تخفيف توتره والتنبيهات المؤثرة عليه، لكننا ومنذ وقت ليس ببعيد ونظراً للأبحاث الآتية من المخابر فإن هذه النظرة تغيرت، فأصبح لدينا أدلة كثيرة على أن الجملة العصبية عند الوليد تعمل Action قبل أن تتعرض للتنبيهات Prior to reaction . وإن الوليد بحاجة للتنبيهات الآتية من محيطه سواء بحالة الراحة Soothing أو اليقظة Arousal ، والحاجة لهذه التنبيهات تدفعه للاندماج والتفاعل مع المحيط منذ الولادة.

وبالإضافة إلى ذلك فبدلاً من كون الوليد عضوية غير متمايزة فأنه يكون قد مر بمرحلة هامة من التطور خلال حياته الجنبينية ويكون قد وصل إلى الحياة بنماذج سلوكية معقدة تساعده على الاندماج مع المحيط، وأخيراً فأن اليقظة والاهتمامات البصرية للطفل ليس هدفها فقط تخفيف حالة التوتر البيولوجي مثل الجوع لأن الوليد يمكن أن ينقطع عن أكله ويهتم بتنبيه جديد إن وجد.

إن استيقاظ الطفل يمكن أن يطوّل بوجود مثل هذا التنبيه، وإن نظام نوم - استيقاظ محدد داخلياً عند الوليد سواء أُطعم أو لا، وهذا يؤكد تقرير Robert emde والذي يقول: "إنه ليس من المبالغ فيه القول إن الوليد هو عنصر فاعل، يبحث عن التنبيه stimuls seeking وهو خلاق في الطريقة التي يبني فيها عالمه".

الرعاية الوالدية
إن الأطفال يولدون باختلافات في شدة حاجاتهم وإن نفس هؤلاء الأطفال رغم اختلافهم في درجة التوتر والحساسية يولدون في محيط يلبي حاجاتهم بطرق مختلفة هذا المحيط الذي ندعوه أحياناً المحيط المتوقع Averge expectable environment إن هناك درجة كبيرة من الحرية في طرق تلبية هذه الاحتياجات. يجب أن تلبى حاجات الوليد وإلا فإنه سيموت، لكن هذه الحاجات يمكن أن تلبى بعدد هائل من الطرق.

والشخص الذي سيقرر تلبية هذه الحاجات هو الراعي Caretaker للطفل وعادة ما تكون الأم لكن هذا يختلف بشكل كبير حسب الحالة الاقتصادية والثقافية والوضع الاجتماعي للعائلة، وإننا نرغب في الافتراض أن ذلك الراعي يعي جميع حاجات الطفل لكن الأمر يبقى نسبياً. فلقد ابتعدنا في مجتمعنا أكثر فأكثر عن بعض العمليات البيولوجية الأساسية. إنه من المحتمل أنه من يقرأ هذا الكتاب وخاصة طلاب الطب قد شاهدوا ولادة طفل، لكن خارج نطاق طلاب الطب قد نجد أن عدداً كبيراً من الأشخاص لم يروا عملية ولادة طفل أو حتى لم يروا طفلاً وهو يطعم -خاصة إذا لم يكن عندهم أولاد- أولم تسمح لهم فرصة لحمل طفل، إن ذلك كان في الماضي أمراً بعيد الحدوث حيث أن معظم الولادات كانت تتم في المنزل وبسهولة كانت النساء ترى عملية الولادة وجميع من في المنزل يشاهد العناية بالوليد والرضيع، لقد ابتعدنا حالياً عن هذا النمط من الحياة وهذا يعني أن الأم يمكن أن تكون بدون أية خبرة في رعاية الأطفال، كما أن نمط الحياة المعاصرة فرضت عدم وجود العائلة الممتدة الواسعة حيث جدة الطفل أو الأخت الكبر للام تعيش في نفس المنزل أو قريباً منه وتساعد الأم الجديدة في التعامل مع الأمور التي لا تعرفها بالغريزة.

إن الرعاية الأمومية لا تبدو أمراً غريزياً عند الإنسان ودلت التجارب أنه حتى الأمهات في أجناس أخرى مثل القردة بحاجة للتعلم عن طريق ملاحظة أمهات أخريات في نفس الفصيلة، ولكن معظم الأمهات يمكنهن التعلم إذا أعطينا القليل من الوقت، فالأم تبدو مختلفة تماماً حين ترعى طفلها الأول مقارنة مع رعايتها لأطفالها التاليين، وبالطبع فإنها تضيف في مهمتها بالرعاية شخصيتها الخاصة وكذلك سيفعل الأب.

وهكذا فالشيء الهام هو ذاك التناغم والتناسب بين الأهل والطفل، فالأم الشابة تكوّن توقعاً مسبقاً عن طفلها، وفي الواقع فإن مدى التناسب بين طفلها الواقعي وبين توقعها سيلعب دوراً هاماً في تحديد التأقلم بينهما وبالتالي طبيعة تطور الطفل، ونفس الشيء صحيح بالنسبة للأب، فمثلاً إحدى الأمهات تريد أن يكون طفلها فعالاً جداً ومستيقظاً في أغلب الأوقات حيث تستطيع أن تلعب معه ولكن إذا حصلت تلك الأم على طفل غير فعال يحب النوم فإنها قد تصاب بالإحباط أو تحاول زيادة تنبيهاتها نحو الطفل. وهذا ما أعنيه بالتفاعل بين المحيط والطفل الذي يحدث منذ الولادة. فالطفل الأقل استجابة قد يصبح أكثر استجابة لأن الأم تكثر من تنبيهاتها والعكس صحيح، حيث أن الأم التي تريد طفلاً هادئاً وتحصل على طفل كثير التنبيه مستيقظاً اغلب النهار ربما تظن أن الطفل جائع وبما أنها تريده أن يعود للنوم فتقوم بإطعامه كلما رأته مستيقظاً، فطبيعة التفاعل بين الطفل والمحيط تلعب دوراً هاماً على تطور شخصيته.

بداية الذاكرة
لنفترض أن لدينا محيطاً وأماً تستجيب للطفل فإننا نجد أن الطفل لا ينمو بشكل جيد إذا عُرض لتنبيهات فائضة أو حرم بشكل مطلق من هذه التنبيهات، فإذا تعرض طفل لتنبيهات فائضة فسيصاب بالكرب (التوتر) distress وبالمقابل فإن حرمانه من التنبيهات يؤدي إلى حدوث مشاكل في تطوره، ولا بد للتطور السوي من وجود نوع من التوازن بين إشباع الرغبات وبين الإحباط لهذه الرغبات، وأفضل مثال على ما ذكرت هو نظام التغذية عند الطفل.

فالطفل في حالة الجوع يمر بمرحلة توتر بيولوجية وكما نعلم فإن الطفل يملك منعكس الجذر، ومنعكس المص، وبما أنه لا يملك التناسق الحركي فإنه يحتاج لأهله لإشباع هذه الرغبة. وفي البداية فإن الطفل لا يعرف بأنه جائع ولا يعرف ماذا يريد بل يشعر فقط بإحساس بيولوجي كامل بأن شيئاً ما لا يجري كما يجب، وهنا يأتي دور الأم فبعد أن يعبّر الطفل عن حالة الجوع بالبكاء تقوم الأم بإطعامه. إننا نفترض أن الطفل يحتفظ بنوع من الذاكرة المبهمة بصورة الشيء الذي خفف توتره، وحقيقة الأمر قد يستمر بالبكاء لدرجة تمنعه من القيام بمنعكس المص بدرجة كافية فالتوتر يكون شديداً والتعبير عن هذا التوتر بالبكاء سيكون قوياً لدرجة منعه من الشعور والتعرف على الشيء الموضوع في فمه، لكن بعد تكرار تجربة إطعام الوليد عدة مرات فإنه يكون قد تعلّم أن الشيء الموضوع في فمه يساعده على تخفيف توتره، وسيبدأ الطفل بتوقع ذلك الشيء عندما يمر في حالة توتر بسبب الجوع.

إن هذا التغير يعني أن الوليد قد اكتسب قليلاً من الذاكرة Trace of Memory، وما نعرفه عن الوليد أن جهازه الحسي بدائي وأن إدراكه ليس دقيقاً، فهو لا يميز أن أمه هي التي تطعمه وأن ما يوضع في فمه هو زجاجة الحليب! لكن رغم ذلك فهو يحتفظ بقليل من الذاكرة عن التجربة التي خففت توتره وبتكرار هذه التجربة عدة مرات فإنها تتعزز، وكلما مرّ الرضيع بحالة توتر فإنه يستعيد من ذاكرته صورة هذه التجربة ويتوقع صوتها.

إن الحديث السابق يبدو غامضاً لكن الذين أتيحت لهم الفرصة للاحتكاك بالرضع يلاحظون هذه العملية، فالوليد عندما يصاب بالتوتر بسبب الجوع ويبدأ بالبكاء فإنه لن يكف عن البكاء عند دخول الأم إلى الغرفة ولن يتوقف عنه إلا حين وضع الزجاجة في فمه وبدئه بالرضاعة، فالرضيع لا يعرف كيف يسيطر على توتره وينظمه أي انه لا يعرف الطريقة لتأخير إشباع حاجاته، لكن بعد مدة من الزمن وخلال عدة أسابيع فإننا نلاحظ أنه يكف عن البكاء بمجرد دخول الأم إلى الغرفة أو إضاءتها الإنارة لأنه يتوقع حدوث التجربة التي تخفف توتره. الطفل في هذا العمر لا يملك قدرة كبيرة على التوقع بما سيحدث لكنه على الأقل يملك جزءاً من هذه القدرة يمكنه من استرجاع التجربة التي خففت توتره في الماضي وأن مجرد الاسترجاع الذهني لهذه التجربة كفيل بتخفيف توتره لفترة من الزمن.

إن الذاكرة التي يكوّنها الرضيع لعملية الإطعام لا تشمل فقط الأكل بل تسجل أيضاً التنبيهات الحسية والحسية الحركية والتي تكون جزءاً من عملية الإطعام وبالتالي فإن استرجاع الطفل لأي جزء من عملية الإطعام، يكون دليلاً عنده على أن كل العملية هي في طور الحدوث، وبما أن الأم تنير دائماً الإضاءة وتحدث ضوضاء عند تحضير زجاجة الحليب فإن الطفل سوف يدرك أن هذه الإحساسات والتنبيهات سوف تؤدي لإتمام الحدث كاملاً (أي أنه يتوقع أنه سيطعم قريباً). إن عملية الطعام هي إحدى أول العمليات والتجارب التي سيستلمها الطفل في حياته.

تعلّم الطفل لهذه التجربة يعتمد على المحيط بقدر ما يعتمد على احتياجات الطفل الفطرية ومنعكساته، وهذه الاحتياجات تتفاعل مع العناية المقدمة له من قبل الشخص الراعي وتؤدي لتعلم الطفل لتجربة الإطعام. والأطفال يتطورون في نواحٍ أخرى في هذه المرحلة من العمر وكل ناحية من نواحي التطور تتطلب وجود شخص راعٍ مؤهل لذلك. وقد عرضت من خلال التطور المرضي ما سيحدث عند عدم تلبية حاجة الطفل لأمه في كتاب مستقل (تحت الطبع).

فإذا نشأ الطفل دون تلبية حاجياته الأمومية مثل الاتصال الجسدي بين الأم والطفل والكلام بينهما والحب، هذه الأمور التي تقدمها الأم مع تلبية حاجات أخرى سواء من ناحية الغذاء أو العناية بالنظافة وغيرها فإننا لن نحصل على طفل متطور بشكل طبيعي، وهذا واضح في التجارب التي أجريت على صغار القرود حيث تمت رعاية حاجياتهم الجسدية مع وجود أم بديلة صنعت من الأسلاك والثياب (أي عدم تلبية الحاجات الأمومية)، إن هؤلاء الصغار لم يتطوروا بشكل طبيعي. في هذه التجارب تمت رعاية حاجياتهم الجسدية -كما أسلفنا- من قبل الفريق العمل فيها ووضعت بينهم أم صنعية (صنعت من هيكل معدني على شكل قرد) أي لم يتم الإطعام بشكل طبيعي وتالياً لم يكونوا قادرين على الانسجام مع بقية القرود. ومع طفل الإنسان لا يختلف الأمر كثيراً فعلى الأهل في الأشهر الأولى تلبية حاجات الطفل الجسدية والعاطفية، الأم توصف بأنها منظمة التوتر Tension Regulator عند الطفل، وذلك ليس بالعمل السهل واليسير، ليس فقط لأن الأم الجديدة تقوم بعملها بشكل متواصل دون أن تحصل على قسط يكفي من الراحة والنوم بل أيضاً لأنها لا تتلقى أي استجابة راجعة Feedback من الطفل فهو لا يتعرف عليها ولا يبدي أي استجابة يمكن للأم أن تستدل منها على أنها تقوم بعمل جيد.

إن معظم الأمهات تتحملن هذه المرحلة لأنهن يغدقن على الطفل كثيراً من الصفات التي لا يملكها في الحقيقة، فهي تقوم بإسقاط ما ترغب به على طفلها، ولحسن الحظ فإن هذه العملية تسمح للأم بتلبية الحاجات المستمرة للطفل مع العلم أن التوازن بين حاجات الطفل وبين تلبية المحيط لهذه الحاجات سيؤدي في النهاية لظهور استجابة عند الطفل وهذه الاستجابة هي الابتسامة.

استجابة الابتسامة
يولد الكائن البشري وهو مزود بمنعكس فطري نسميه الابتسامة الداخلية Endogenous smiling وهي في البدء غير متعمدة وبلا معنى (أي فطرية وغير مقرونة بمفهوم السعادة)، وفي سياق التطور الطبيعي وبغرض الحصول على درجة كافية من الرعاية من الأم في الأشهر الأولى فإنه سيبدأ بالابتسام للأم أو لأي وجه إنساني (أو أي شيء يشبه الوجه الإنساني) وهذا ما يسمى بالابتسامة الخارجية Exogenous أي أنها تثار من الخارج.

إن قوة الملاحظة لا تكون دقيقة في البداية وبذلك فإن استجابة الابتسامة يمكن أن تولد بأي شيء يشبه الوجه الإنساني مثل مثلث يرسم بداخله دائرتين صغيرتين، ولكن الابتسامة شيء يستجيب له الأهل بقوة لأنها الإشارة الأولى للتفاعل العاطفي عند الطفل، وبذلك فهي المرة الأولى عند الأهل التي يتلقون فيها استجابة من قبل الطفل تدل على أنهم يتعاملون مع ما هو أكثر من مجرد كتلة لحمية لها حاجاتها البيولوجية.

وعندما يبلغ الوليد شهرين إلى ثلاثة من العمر فإنه سيبدأ بالابتسام بشكل تلقائي حين رؤية الأم ويدعى ذلك بالابتسامة الاجتماعية social smile والتي تعطي للأهل متعة خاصة تجعل ما تبقى من رعاية الطفل سهل بكثير. وربما يبدو للبعض أن هذه الابتسامة هي شيء تافه لكنها في الحقيقة أحد علامات تطور الطفل وقد دعاها Spitz أول انعكاس عضوي للنفس first organizer the psyche، فإذا لم يبد الطفل ابتسامة في وقت ما فإننا يجب أن نتوقع وجود شيء خاطئ وخطر في تطور الطفل.

إن الابتسامة شيء هام لأنها دلالة على بدء استجابة الطفل النوعية لموضوع خارجي ما وفي خلال الشهرين الأوليين من الحياة لا يكون لدى الطفل تمييز بين نفسه Himself والعالم الخارجي، وهذا ما دعته مارغريت ماهللر Margaret Mahler مرحلة الذاتية في التطور Autistic stage of development . إن تعبير الذاتية يستعمل أيضاً بشكل مرضي في وصف مجموعة من الأطفال تظهر اضطراباً شديداً مميزاً (وهو الانطواء الذاتي الطفولي Infantile Autism) حيث لا يمكنهم التمييز بين أنفسهم وبين الوسط الخارجي وهو ما يميز الطفل الطبيعي عن الطفل المريض. فالطبيعي هو طفلٌ نشيط يقوم بالتفاعل مع التنبيهات الموجودة في محيطه، وهو بذلك في مرحلة بدء التمايز منذ اللحظة الأولى للولادة. إن التمايز الأولي Early differentiation يحدث كتطور فاعل ومتتابع في الطفل الطبيعي وإن هذا التمايز الأولي هو المضطرب في الطفل المنطوي ذاتياً Autistic child.

وبالإضافة للابتسامة الاجتماعية فهناك تغيرات أخرى تحدث خلال الشهر الثاني من الحياة والتي تدل على تطور ملحوظ وعلى تحول سلوكي بيولوجي A Biobehavioral shift كما دعاه Robert Emde، من هذه التغيرات زيادة القدرة على تحمل فترات طويلة من النوم والتحول نحو نموذج يومي من الاستيقاظ النهاري والنوم الليلي وزيادة الانتباه وحصول الاتصال العيني والمسح البصري Visual scanning لوجه الأم وتراجع النزق Decline in fussiness وزيادة في المناغاة Babbling والقرقرة Cooing واكتساب قدرة جديدة في المحافظة على تأثيرات ما تعلمها عن طريق العادة والشرطية.
                                                   وللحديث بقية........



الكاتب: أ.د عبد الرحمن إبراهيم
نشرت على الموقع بتاريخ: 19/08/2008