إغلاق
 

Bookmark and Share

حقوق المريض النفسي بين الرعاية والوصاية ::

الكاتب: أ.د.محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 30/01/2008


(استدراكا لقانون الصحة النفسية الجديد تحت الإصدار)
إن حضارات الأمم تقاس بمدى رعايتها للضعفاء, والمريض النفسي هو أحد الضعفاء خاصة حين يفقد القدرة على إدارة حياته ويعجز عن التكيف مع الظروف المحيطة به بسبب مرضه, وما هان مستضعفو أمة على أقويائها إلا وهانت كل الأمة.

طبيعة المرض النفسي وتأثير ذلك على حقوق المريض:
يختلف المرض النفسي عن غيره من الأمراض حيث يؤثر على وظائف مهمة مثل الوعي والإدراك والتمييز والتفكير والإرادة والحكم على الأمور والاستبصار والقدرة على اتخاذ القرار, والحالة الوجدانية, والسلوك. وهذه الوظائف تتأثر بدرجات متفاوتة طبقا للحالة المرضية الموجودة, حيث يزداد الاضطراب في الحالات الذهانية بشكل واضح ومؤثر, وهذا يستدعي تدخل الأسرة وأحيانا المجتمع بهدف الرعاية, وأحيانا الحماية وربما الوصاية المؤقتة أو الدائمة, وقد يبالغ الأهل أو المجتمع في الحماية أو الوصاية بشكل يؤثر على حقوق المريض النفسي كإنسان, حيث يتحول الأمر من جانبهم إلى نوع من السيطرة والاستبداد والقمع تحت ستار المرض النفسي.

وقد يحدث عكس ذلك فيتعرض المريض للإهمال أو النبذ أو الوصم أو الإيذاء, وأحيانا يتعرض للقتل دون ذنب جناه.
والمرض النفسي له مستويات متعددة, وينتج عن عوامل متشابكة منها الجسدي والنفسي والاجتماعي والديني, والنظرة لهذا المرض وبالتالي التعامل معه يتأثران بالعوامل الثقافية والعادات والتقاليد, لذا وجب الإحاطة بكل هذه العوامل ووضعها في الاعتبار حين نتعامل مع المريض النفسي على المستوى العائلي أو المجتمعي أو الطبي أو القانوني .
من هنا نشطت في العالم كله دعوات للمحافظة على حقوق المريض الذي فقد بعضا من وظائفه المعرفية أو اضطربت وظائفه الوجدانية والسلوكية .
تاريخ مضيء وحاضر ملتبس:
اهتم قدماء المصريين برعاية المرضى النفسيين والحفاظ على حقوقهم وكرامتهم, ويظهر ذلك في الكثير من البرديات والآثار التي تركوها.

ونظر أبقراط إلى الأمراض النفسية نظرة موضوعية, وذكر أنها لا تختلف عن الأمراض العضوية, ونفى الاعتقاد بقدسيتها وغموضها, وذلك ليواجه الخرافات التي كانت سائدة في عصور الظلام والتي كانت ترى أن المرض النفسي تسببه أرواح شريرة ويقومون بضرب المريض وإيذائه لإخراج هذه الأرواح.

وفي الوقت الذي كان المريض النفسي يعامل بقسوة في أوروبا فيربط بالجنازير ويضرب ويحرق بالنار, قام الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك بتأسيس أول بيمارستان للمرضى العقليين بدمشق سنة 93 ه (707 م), وكانت تخصص لهم جرايات تنفق عليهم للعيش داخل البيمارستان وخارجه. وفي سنة 151 ه (765م) أسس العباسيون في بغداد أول قسم مخصص للأمراض العقلية, ثم نسجت على منواله جميع العواصم الإسلامية في الشرق والغرب, وكان أشهرها مستشفى قلاوون في مصر والتي كانت تحوي قسما للأمراض العقلية جنبا إلى جنب مع التخصصات الطبية الأخرى, وقد دفع ذلك الإخوة "سان جان دي يو" (Saint Jean de Dieu) في أوائل القرن الخامس عشر إلى بناء أول مأوى أوروبي للأمراض النفسية بفلنسيا (Valence)على مثال البيمارستان الذي بني بالقاهرة سنة 705 ه (1304 م), ثم انتقل الإخوة "سان جان دي يو" إلى فرنسا وشيدوا مأوى شارنتون (Charenton)بطلب من الملكة ماري دي ميدس (Marie de Medicis)(عن المجلة الطبية لاتحاد الأطباء العرب, صفحة 5, 6,7 مع الاختصار). واهتم العرب والمسلمون بتزيين المستشفيات العقلية بالنافورات والحدائق, واهتموا بغذاء المرضى وحسن معاملتهم, واعتبروا ذلك واجبا دينيا ومجتمعيا.

وفي الوقت الحاضر نرى تقدما علميا رائعا وزيادة مضطردة في الأدوية والوسائل المستخدمة لعلاج الأمراض النفسية, ولكن نجد أيضا جنوح لدى الكثيرين في اعتبار تلك الأمراض ناتجة عن تأثير الجن وبناءا على ذلك تنتشر ممارسات إخراج الجن على يد دجالين ومشعوذين متسترين بشعارات دينية أو شبه دينية. وهذا لا يمنع وجود مؤسسات ومنشآت لعلاج الأمراض النفسية في الجامعات المصرية ومستشفيات وزارة الصحة, مع وجود كوادر بشرية جيدة التدريب, وأساتذة لهم سمعة عالمية ممتازة على المستوى العالمي.

حقوق المريض النفسي:
1 - حقه في العلاج:
والحق في العلاج هنا ليس فقط واجبا إنسانيا أو مجتمعيا, وإنما هو تكليف إلهي, فمن المقاصد الأساسية للشريعة حفظ النفس وحفظ العقل.
وهذا الحق يتضمن:
علاج المريض في مكان مناسب وبأدوية ووسائل علاجية مناسبة دون تفرقة على أساس الفقر أو الغنى أو اللون أو الجنس أو العقيدة.
عودة المريض إلى بيته وحياته الطبيعية في أول فرصة تسمح بذلك, وأن لا يتم احتجازه لآجال طويلة دون دواع طبية.
حق المريض في أن يعالج في بيئته الطبيعية وبين أهله كلما أمكن ذلك, وهو ما يسمى في الطب الحديث ب "العلاج المجتمعي", (Community Therapy)حيث تصل الخدمة الطبية إلى مستحقيها دون انتزاعهم من بيئتهم الطبيعية.
حق المريض النفسي في فهم طبيعة مرضه (كلما أمكن ذلك), وفهم طبيعة العلاجات التي يتلقاها وموافقته عليها (إذا كان مستبصرا بمرضه).
حق المريضة النفسية (أو المريض النفسي) في الحماية من آثار الطرح الذي ينشأ أثناء العلاج, وهو حالة من التعلق العاطفي بالمعالج (أو الرفض له) نظرا لما يمثله في وعي المريضة (أو المريض) وما يذكرها به من شخصيات أحبتها أو كرهتها في حياتها. وهذا يستلزم قدرة وضبطا من المعالج, وأن لا يستغل ضعف المريض أو المريضة في هذه العلاقة.
حق المريض في الرعاية اللاحقة والتأهيل
وقد تأكدت هذه الحقوق عالميا في إعلان الأمم المتحدة في عام 1991 حول حقوق المريض النفسي, ومن أهمها الحق في العلاج باستخدام الوسائل الطبية الحديثة, وأن يحصل المرضى النفسيون على ذلك دون تفرقة, على أن يتم ذلك باختيار المريض, أو بأقل قدر من القيود على حريته.

2 -
حقوقه المدنية:
وهذه الحقوق لا تقل عن حقه في العلاج, فهي تتصل بكونه إنسانا مكرما, يعامل بالعدل والرحمة والإحسان, ومن هذه الحقوق على سبيل المثال:
* حقه في الزيارات أثناء حجزه بالمستشفى
* حقه في الاتصال بالعالم الخارجي من خلال التليفون, ومشاهدة التليفزيون, وسماع الراديو, وقراءة الصحف والمجلات والكتب
* حقه في تدبير شئونه وإدارة أمواله متى كان ذلك ممكنا, ويستثنى من ذلك حالات الحجر أو الوصاية بضوابطها الطبية والشرعية
* حقه في الإقامة في مكان ملائم
* حقه في وظيفة ملائمة لظروفه تهيؤها له الدولة أو مؤسسات المجتمع المدني وتراعى في ذلك صعوبات تكيفه ومحدودية قدراته وحاجته للدعم المستمر
* حقه في نوعية حياة جيدة سواء داخل المستشفى أو في بيئته
* حقه في الحرية ما لم يكن في ذلك إضرارا بنفسه أو بالآخرين
* حقه في الاحتفاظ بكرامته بعيدا عن الوصم الاجتماعي, فوصمة المرض النفسي قد تحرم صاحبها من كثير من حقوقه كالعمل والزواج والعلاقات الاجتماعية
* حقه في الرعاية الأسرية دون المبالغة في فرض الحماية أو الوصاية عليه
* حقه في الرعاية المجتمعية سواءً الحكومية أو مؤسسات المجتمع المدني
* حقه في المحاكمة أمام محاكم خاصة لديها القاعدة القانونية إضافة إلى خلفية طبية تدرك بها طبيعة المرض النفسي وظروفه وتأثيره على وعي المريض وتمييزه وإرادته وسلوكياته.

إشكاليات تواجه الرعاية الطبية للمريض النفسي:
هناك العديد من التساؤلات التي لم تجد لها إجابة محددة في قوانين الصحة النفسية المختلفة نذكر منها:
1 – هل يحفظ الطبيب النفسي سر المريض وهو يعلم أنه قد يسبب ضررا لأحد أو ينوي ارتكاب جريمة؟
2 – ماذا يفعل الطبيب إزاء مريض نفسي يتبوأ منصبا مهما يتأثر بمرضه النفسي ويؤدي أو ربما يؤدي إلى نتائج خطيرة؟
3 – ماذا يفعل إزاء مريض بالصرع أو بمرض نفسي يؤثر على قدرته في التحكم وهو في نفس الوقت يحمل رخصة قيادة ويقود سيارته بطريقة قد تكون غير آمنة؟
4 – ماذا يفعل الطبيب النفسي إزاء شخص يتعاطى المخدرات أو المسكرات وهو يعمل في وظائف حساسة كالطيران أو الأمن أو القضاء أو التعليم أو غيرها؟
5 – ماذا يفعل إزاء مريض أبلغه بأنه سوف ينتحر, ثم رفض هذا المريض نصيحته بدخول المستشفى؟

هل من حق الطبيب النفسي أن يبلغ أولي الأمر بمثل هذه الحالات دفعا للضرر العام أو الخاص, أم يلتزم الصمت بناءا على قاعدة سرية العلاج وحق المريض في المحافظة على أسراره؟

توصيات: هذه التوصيات مردها إلى مشروع قانون الصحة النفسية الجديد والمعروض على مجلس الشعب للمناقشة, ذلك القانون الذي انتظرناه طويلا حيث ما زلنا نسير على القانون رقم 141 لسنة 1944 م ذلك القانون الذي أصدره الملك فاروق ولم يتغير منذ ذلك الحين رغم أن الدنيا تغيرت كثيرا عبر هذه السنين. وقد جاءت مسودة مشروع القانون الجديد لتحاول اللحاق بالعصر الجديد, ولكنها جاءت وكأنها كتبت لمجتمع غير المجتمع المصري, وحوت قيودا هائلة على الممارسة الطبية, وجعلت رقبة الطبيب النفسي تحت المقصلة طول الوقت, وجعلت التفكير في إنشاء أو تشغيل منشأة نفسية أشبه بالمشي في حقل ألغام, فيبدو أن مواد هذا القانون الجديد قد وضعها رجال قانون بمساعدة قليلة من أطباء نفسيين, أو أنها صيغت على غرار قانون وضع لبلد غربي تختلف ظروفه وثقافته كثيرا عن المجتمع المصري, ولذا جاء القانون مغتربا ومفزعا لأي ممارس لمهنة الطب النفسي حيث يضعه طول الوقت تحت تهديد القانون ليجد نفسه دون أن يقصد أو يدري مهددا بالسجن لعدم درايته بالتفاصيل الكثيرة والمعقدة لهذا القانون. وقد يصعب مناقشة مواد القانون في هذه المساحة ولذا نكتفي ببعض التوصيات العامة على أمل إنقاذ الموقف قبل فوات الأوان:

مراعاة الظروف الثقافية والاجتماعية في إصدار القوانين الخاصة بالصحة النفسية, فنحن مجتمع أسري تلعب فيه الأسرة دورا هاما, وتؤثر في حياة أفرادها, في حين يضعف دور المؤسسات الحكومية الرسمية والمدنية. وهذا يستلزم مراعاة عدم نزع حق الأسرة في علاج المريض ورعايته حيث لا توجد لدينا مؤسسات مجتمعية تسد فراغ غياب الأسرة أو تقييدها بالقانون عن القيام بهذا الدور.

استلهام أسس الرعاية لحقوق المريض النفسي من ثقافة المجتمع في القانون الجديد للصحة النفسية حتى لا يصدر القانون على صورته الحالية مغتربا ومنتميا إلى مجتمعات أخرى لديها قيمها وآليات حياتها المختلفة عنا جملة وتفصيلا.

مراعاة موافقة القانون الجديد للصحة النفسية لأحكام الشريعة الإسلامية حتى لا تتعارض بعض مواده مع المادة الثانية للدستور, وخاصة فيما يتعلق بأحكام الزواج والطلاق والعقود والميراث والشهادة والأهلية والوصاية والحجر وتعاطي المخدرات والمسكرات, وغيرها من القضايا.

مراعاة النقص الشديد في المتخصصين في علاج الأمراض النفسية وفي المنشآت المخصصة للمرضى النفسيين في مصر, هذا النقص الذي قد يشكل عوائق كثيرة في تطبيق القانون ويضع القائمين عليه في حرج أو اضطراب, كما أن القيود الشديدة التي حواها القانون تجعل الكثيرين يحجموا عن إنشاء مصحات أو أقسام أو مستشفيات نفسية عامة أو خاصة, بل قد تجعل الأطباء يبتعدوا أساسا عن هذا التخصص الشائك.

اقرأ أيضاً:
وصمة المرض النفسي: ليست من عندنا!
عقلاء الشارع أخطر من المجانين
عقلاء الشارع أخطر من المجانين مشاركة
دوامة الهلع: أين حقوق المريض العربي
المريض النفسي: مهضوم الحق؟ أم كلنا؟
المريض الصعب.. هل يمكن أن يصبح سهلا!!
أسر المرضى النفسيين Patient 



الكاتب: أ.د.محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 30/01/2008