إغلاق
 

Bookmark and Share
اسم العمل الأدبي: عندما تتحطم الأحلام 
اسم صاحب العمل: أحمد الكناني 
نوع العمل: قصة قصيرة 
الوزن الشعري: ---------------- 
تاريخ النشر:  16/05/2005
 
الموضوع

إهداء :

إلى كلّ حبٍ صادق
كأشعةِ نجوم ٍ
تمتزج بفضاء دموعنا الشفاف
تحت السماء الهائلة..
كما الحب.. هائلة..
كما الجنون.. هائلة..
كما الأحلام.. هائلة
هائلة.. هائلة..

------------------

حَدَث ذلك في السابعة من مساءِ يوم خميسٍ كانوني بارد , كُنا قد ضَربنا موعدنا منذ خَمسة أسابيع بطيئة ; ولما أزفَ اليوم الموعود, ارتديت حلةً سوداء وقميصًا ناصع البياض , وعمدت على إغفال ربطة العنق الخانقة , فبدا شكلي كأديب مهموم بسطوره ; يممتُ صَوبَ المُتنزه العمومي , المُتشحة زواياه بظلال المساء المُنذر بخوف الاعتقالات.
كانت الريح السهبية المتجمدة تعول بحركتها السريعة بين الأشجار, التي عمل قطّ الشتاء خربشة بأوراقها شبه المتآكلة , وقد شاركت المصابيح البرتقالية الشاحبة ببث كآبة تعود لمقبرة إغريقية مهجورة ..

مشيت بوجلٍ دفين في الممرات المقفرَة, وبدا الصمت نوعًا آخر من أنواع الخوف المرافق لتأنيب الضمير, الناتج
لضرب هذا الموعد المتأخر والمحاط بالمخاوف. تمتمت مُطمئنًا ذاتي بأنّ كل شيء سيكون على مايرام, ثم أخرجتُ
قصاصة صفراء من جيب سترتي الداخلي وقرأت متأكدا "المقعد 67 تحت شجرة الصنوبر". ثنيت الورقة بين
أصابعي, ونسيت أن أرجعها لجيبي على الفور, فبقيت براحتي حتى جَلست على المقعد الحديدي المصطك ببرودة المساء البطيء.

تلفت ذات اليمن وذات الشمال بقلق, ثم دققت بساعتي فكانت تشير للسابعة وست دقائق, وما إن رفعت رأسي مرة أخرى حتى رأيت شبحها يقترب مني بخطوات متسارعة , وكأنها تحاول أن تميّز شبحي من بعيد أيضًا. لم يكن
هناك ثمة شكٍ بمن تكون , فهذا الشعر الليلي, لا يتموج فوق رأس أي أنثى سواها , إذ يبدو كأمواج موت مستعجلة بسبب النسائم الثلجية التي تمشّط المُتنزّه الموحش بين الفينة والأخرى. اقتربت أكثر حتى صار بمقدوري تمييز تنورتها السوداء الطويلة, المتراقصة أذيالها مع كل صَنجة من صَنجات كعبها الرفيع, وارتدت مع ذلك قميصًا بنفسجيًا قاتمًا وفضفاضًا لكي لا يجسِّمَ نهديها - فهي شديدة الحياء- .

- "آسفة.. لقد تأخرت لشراء القهوة", قالتها باستعجال مرح وهي تقدم كأس القهوة الكارتوني الذي تصاعد منه البخار على نحو شهيّ, فأخذته بهدوء مع تمتمتي "شكرًا". تذكرت على الفور بأنها تكره الرسميات بتعاملي معها, وبالذات هذه الكلمة التي أكثر من قولها بأغلب المناسبات, فاعتذرتُ وضحكَتْ على اعتذاري السريع وقالتْ بلهجة امرأة ناضجة ومسيطرة تماما على دنيا الرجل "هكذا أفضل يا ولَد", ولم أتمالك نفسي من الابتسام لتعاليها الظريف, ورحت أتأملها أثناء ارتشافها البطيء والمتقطع من كأس القهوة, الذي تمسكه بوسط راحتيها قريبا من فمها الأرجواني. كان شعرها غزيرًا ناعمًا, وقد سُرِّح كله من جهة الصدغ الأيسر نحو أذنها اليمنى , الأمر الذي أبدى صدغها الأيسر الناعم, المغطى بسالف يمتد حتى وسط الفك الصغير, الذي طالما حلمت بلثمه دون رفع فمي عنه ..

كان النسيم السهبي يحمل رائحتها كلما هَبَّ من بين خصلات الشعر العربيّ اللامع والعنق الطفولي النحيل, كانت
رائحة شبيهة بأريج الياسمين الأبيض المبلل بندى الرابعة فجرًا بالضبط. ولم تكن سُمرَتها بالغامقة أو الشاحبة, بل
كساها لون اللوز الطازج ذا الظلال الذهبي الخفيف. وكثيرًا ما علّقت هي على سمرتها الشهية بحماس قومي؛ "لوني كلون الأرض العربية", وكان هذا التعبير يروق لي كثيرًا رغم ابتعادي عن الفكر السياسي وتدقيقي بهندسة الطيران .

كانت العلاقة بيننا قد أكملت عامها الثالث, ومازلت أستذكرها بزيها المدرسي حينما رمقتها كالمشدوه, وهي تخطو
شارع القدر بهدوء يفوق هدوء مراهقة بالسادسة عشرة من عمرها. وما وجدت بالأربع سنوات التي أكبرها بهن أي
عائق بوجه حب ملحمي معتوه يطيح بعروش كل العشاق الغابرين. لم أعاملها كطفلة على الإطلاق, ولم يكن هذا
للسكينة الناضجة التي تكسب عينيها ذاك السواد اللامع, بل لأنها بالفعل أكبر فكريًا من أي فتاة عرفتها وبمختلف
الأعمار. كانت قومية الفكر لدرجة الجنون, وعلى الرغم من موافقتي لأفكارها إلا أنني لم أدخل المعترك السياسي الفكري "لضيق الوقت" كما كنت أعلل حينما تصل لامبالاتي أوجها, الأمر الذي يدفعها للضحك بانسيابية ناعمة أشبه بهديل الحمام. لكن ما كان يؤرقني حقًا هو رفضها للالتزام الديني, وعلى عكس الفكر السياسي, فقد كنت نقيضًا صارمًا بهذا الجانب الذي كان يتدهور فيها مؤخرًا.. قطعت قناة أفكاري بسؤال مرح :

- ستطيل لحيتك مرة أخرى ؟

- لا, قد أسجن بتهمة الإرهاب.

- احلقها حتى لا تتحول لإرهابي.. ثم أن وجهك حليقًا لهو أكثر..

صمتت هنا مع إفلات ضحكة فئران قصيرة, عندها أجبتها على الفور وبمزاج رائق :

- وسامة ؟

- أيها المغرور.

تأملٌت فمها المكور كزهرة الجوري وقلت بنغمتي الهادئة :

- أعتذر على هذا الوقت السيئ لرؤيتك.. كيف هي أحوالك على أيَّة حال ؟

- لا عليك.. أنا أثق بك ; أما أوضاعي فهي كالأوضاع العربية , فأنا بخير لو كان وطني الكبير بخير والعكس كذلك .

صفرتُ بصفرة قصيرة وقلت بخبث مصطنع وسخرية , دلت عليها ابتسامتي العريضة :

- هذا أسوء وضع بالتأريخ , لمن ستوصين بأملاكك ؟

- ماذا تقصد ؟ نحن لا نحتضر ولكننا نعاني من التخلف والرجعية.. أنا أرفض انهزاميتك .

- التخلف مفهوم معقد ولا يمكن قياسه على الشكل العمراني أو الصناعي , بل التطور الميداني هو شكل يتحقق
بمراعاة ظروف معينة كالاستتباب الاقتصادي والسياسي وتوافر الخبرات . الحضارة مفهوم أكبر بكثير مما يحصره
البعض
, ولا أعتقد أن ما نملكه من حضارة بمعناها التام يعتبر ميراث متخلف , بل التخلف برأيي هو نبذ التجربة
التأريخية والفكرية للأمة والسعي خلف نتائج فكرية لأمم أخرى عاشت تجاربها بظروف غير ظروفنا.. إنها تبعية
فكرية
يا ريم .

بدا الاهتمام جليًا بعينيها النجلاوين وقالت بتحفظ :

- هل ترى بالقومية تبعية فكرية يا أحمد ؟ الشكل القومي هو أكثر الأشكال السياسية تطورًا برأيي , ولذا فنحن
عازمون على تحقيق الوحدة بأي شكل وسيتساوى الجميع تحت ظلِّ العلم .

- أوافقك على أغلب ما قلتهِ .. ولكن يجب أن نحقق وحدة تعترف بالحضارة التي تمتلكها أمتنا , لا أن نستورد
أنظمة وفلسفات جاهزة لنلصقها بدولتنا القائمة على إطارٍ قومي . بكلمة أخرى : ليكن ما يكون ولكن ليس على
حساب أخلاقياتنا وقيمنا كما يدعي صديقك طارق شمالي .

- إنه ليس صديقي بل أخي , أقصد كأخي .

أحسست بدبيب الخوف يتسلل إلى شرايين القلب , لكني تغلبت على توتري بضحكة جافة وأعقبت :

- منذ متى صار الفوضوي طارق شمالي بمنزلة الأخ ؟ ثم إن الرجل يكبرك بتسعة عشرة عامًا ولا أعتقد أن علاقتكما يجب أن تتجاوز علاقة أي طالبة بأستاذها بالصف.. أم لا ؟

- إنه حر وما يؤمن , فما يهمني هو كونه وطنيّ , وبصراحة علاقتي واضحة مع الرجل , ولا أظنك تتهمني بشيء
أليس كذلك ؟

- أستغفر الله , بالتأكيد هو حر وما يؤمن وليس لنا أن نحاسبه على اعتقاده , ولكن أخلاقنا ومبادئنا ترفض أن
نتعامل مع إنسان يصر على تدمير ما نؤمن به وتشجيع ما نعتبره خطيئة , وأفضل شكل لمعاملته هو الشكل السطحي . ثم ما قصة الوطني هذه ؟ ما أهمية الوطنية إلى جانب الانحراف الأخلاقي المشين الذي يعتريه وما بوسعه أن يقدم لمجتمعنا سوى الشعارات السياسية ؟ إنه يزعجني يا أميرتي .

التمعت شفتيها بابتسامة سريعة فور سماعها كلمة "أميرتي" , إذ ذكرتها بعفوية أيام مضت عند وصول طارق شمالي هذا إلى حياتها. كان طارق شمالي يدير معركته بهدوء خلف قشرة الأستاذ المثقف الحازم , وببضع جلسات بمكتبه استطاع أن يتحكم تمامًا بعالمها والنتيجة كانت ضعف التزامها الديني وخسارة أخلاقية صارت تطفو على السطح أحيانًا .


زَفرت الهواء من رئتيها فتصاعد على شكل بخار أزرق تحت ضوء القمر الضئيل , وتمتمت بحزن :

- لا أفهم سببًا لكرهه فهو إنسان وهذا سبب كافٍ لأن نتقبله .

- ربما كان علينا تقبل المجرمين وعدم محاسبتهم وفق هذه العقلية المؤمنة بالتوافق الفسيولوجي مع تنكرها للفكر ودوره بتحديد العلاقات بين البشر.. هذه عقلية بدائية , فالإنسانية ليست أيدلوجية بل مجرد فكرة ذات عقلية
سفسطائية لا تخدم التنظيمات البشرية بشيء سوى سحق الفروقات والثوابت الأخلاقية بين خيار البشر وأشرارهم , وفي النهاية يقف الجميع ضائعًا بلا أيدلوجيا وثوابت سوى تلك التي تطرحها الأطراف الاستعمارية القوية . ثم إنَّ الصهيونيّ "إنسان" أيضًا فما لك لا تتعاطفين معه ؟

- ولم لا ؟ التعايش الإنساني ضروريّ .

- يبقون أعداءً محتلين .

- هذا تطرف .

- ليس تطرفًا بل هو حقنا بنقد فكر الآخر واتخاذ موقف منه دون الخوف من الاتهامات الجاهزة , وأعتقد بأنَّ الفرق
واضح بين كتم حرية التعبير وبين تجنب فكر آخر وإنسان يناقضني جملة وتفصيلا أليس كذلك ؟ ، وعودة لشماليّ ,
فأنا لست مع قطع رأسه بالمقصلة , بل مع التحفظ معه تمامًا كما يتحفظ هو معي وهذا حقه .

سهَمَ بصرها بالظلام المتحجر بين أشجار السرو , وقالت أخيرًا :

- مازلتُ لا أفهم سببًا لكي ترفض نقاشي معه.. مجرد نقاش .

- النقاش بحد ذاته رائع , ولكن هناك مشكلتين بملفك : أولهما أنه مناقش بذيء ولا يحترم مقدسات الغير بل يسخر منها بأسوأ الألفاظ , والثانية أنك لا تمتلكين أُسسًا فكرية مستقلة عنه , وبهذه الحالة فإن النقاش سيتحول من نزال فكري إلى تدريس وتثقيف.. دروسه هو.. ثقافته هو.. والأمر يعود لك على أية حال .

.. ما إن ختمت كلامي حتى ساد صمت مفلت الأعنة لا تثلمه سوى الخواطر الكئيبة وزفرتي التي أعقبتُها بجملة
منهكة :

- لم أتوقع أن اللقاء سيكون بهذه التعاسة , لقد رجوتك مرارًا أن يكون حبنا بعيدًا عن تجارب شمالي السامة .

هزت رأسها بحزن وسمعت صوتها الأمومي يهمس أثناء تنميقها لياقة قميصي المائلة :

- آسفة على أذيتك , لكني أملك الحق بالتفكير ، أليس كذلك ؟

لم أقاوم تمرد مرارة الالتياع الذي أثارتها كلماتها , ولن أقدر حتى على مقاومتها , فطفَت اللوعة على شكل ابتسامة مرتجفة . قلت بصوت مخدّش يعلوه غبار الألم :

- المشكلة يا ريم هي تصديقك لأي خاطر يقف على مسرح أفكارك .. هناك فرق بين ما نفكر فيه وما نختاره
لنؤمن بصحته
.

- أنت مخطيء .

زفرتُ من جديد وبصري يصعد نحو النجوم , تلك المطلة من بين فتوق الغيوم الرمادية المنارة بضوء القمر الخفي
.. وقلت :

- آمل ذلك يا حبيبتي.... آملُ ذلك .

كان صوتي خاتمًا خياليًا لأي حوار بهذا الشأن , ذلك لأنه قد بدا مرهقًا, مستسلمًا , وعديم النفع. وقبل أن أجد دقيقة راحة بعد هدوء زوبعة الخواطر برأسي , كانت قد تنحنحت برقة وقالت مطلقة رصاصة حرب جديدة :

- أحمد ..

- نعم ؟

شربِتْ ما تبقى من قهوتها بتوتر ثم ألقت القنبلة :

- سأسافر لأمريكا كي أدرس ولن أعود إلا بعد ستة أعوام على الأقل , ولكني سأرجع للقائك بالعام المقبل وما يليه , وسيكون موعدنا هنا بنفس الليلة والشهر.. لا تَمُت .

قالت كلمتها الأخيرة بمرح ، ولكنه لم يكن كافيًا لتبريد حرارةِ النَّصل الذي اخترق أحشائي الذاهلة , الأمر الذي ولّد
قشعريرة عملاقة ضاعفت النسائم الثلجية من دوامها لدقائق أزلية .
قلتُ وأنا أقاوم لطْمات الدوار المضني والبرد الشرس :

- و لكن ؟؟ , ماذا عن زواجنا المرتقب ؟

أجابتني وهي توضب حقيبتها الصغيرة استعدادًا للمُضِي :

- آسفة , سنتحدث بهذا بعد رجوعي من أمريكا أو هاتفيًا , فالزواج قضية ثانوية بالنسبة لي حاليًا , وسيرافقني
الأستاذ طارق شمالي كي يساعدني بدخول الجامعة بما لديه من خبرة وصداقات كثيرة مع دكاترة أمريكيين .

كنت على وشك النهوض معها ، إلا أن جسدي هوى إلى مجلسي جراء صعقة جملتها الأخيرة وقد اتسعت حدقتاي بشدة وتمتمت بلسان من استفاق من حلم بالغ الغرابة :

- يرافقك ؟ يبدو أن علاقته بك أقوى مما تصورت .

- هل هناك ثمة ممانعة ؟

سألتني بحزم خفي وقد ضغطت بأصابع يدها اليسرى على سير حقيبتها الجلدي , وما كان مني سوى التحديق
بالأرض هربًا من عينيها المهددتين بالقطيعة . قلت أخيرًا بصوت متهدج رغم محاولتي لأن يكون ثابتًا :

- هل ستسمعين كلماتي الأخيرة أم أنها لا تهمك أيضًا ؟

رسَمتْ ظلال خيبة بدت لي مصطنعة وتمتمت :

- لا تقل هذا ولن تكون الأخيرة يا "حمادة" . تفضل .. أرجوك .

وهنا .. تعانقت عيوننا لآخر مرة وقد شعرت بأنني أحبها كما لم أحب مخلوقًا من قبل , حب كافٍ لأن يغرق هذا
الكوكب بأسره حتى لو أفرغ من محيطاته وبحاره ; أحيانًا يكون الحبّ كالنجوم المحتضرة , تنفجر ببريق أشد زخمًا
من نورها الطبيعي وتنير مجرات بأسرها ولكن سرعان ما تخبو إلى حالة الرماد المطلق .
انساب الصوت نقيًا بجوف الليل الذي حطَّ ركابه للتو :

- إن أشد لحظات
الألم على قلب الرجل هي تلك التي يشعر بحجم مأساته دُفعة واحدة وتقتل كل معنى للأمل عنده .. لا فائدة لأن أشرح لك معنى أن يحتاج الرجل امرأة , فربما لن تفهمي.. إلا أنني سأكون ممتنًا لو فهمت هذا ,( وسارعت لمسح دمعة كانت على وشك المسيل) , .. كل ما أريد أن تفهميه وتذكريه هو أنني أحببتك بمحطة قصيرة من حياتي , وحتى لو هجرتِني فسأحملك كذكرى جميلة لأثرٍ ماضٍ عن حياتي وإلى الأبد ... أحبك كثيرًا وسأفتقدك كثيرًا أيضًا.. وداعًا ريم.. وداعًا .

.. لكم تفاجأت حينما رأيت ذقنها الصغير يرتجف جراء التأثر, وما لبثتْ حتى قفزت إلى صدري دونما إرادة مع
صرخة مبتلة بالدموع الساخنة "كفى". لقد استقبلتها بذراعي , ولما كانت تقصرني بكثير فقد اضطررت لرفعها عن
الأرض , وبقيت معلقةً بي هكذا وقد طوقَتْ رأسي بذراعيها المتشنجتين . وبلحظة ما .. , لحظةٍ جميلة ومؤثرة ,
شعرت بدموعها الملتهبة تسيل على رقبتي بخطوط طويلة وسريعة , ذلك لأنها قد أسندت بجبينها هناك. والواقع
فإنني تأثرت لدرجة حملتني لتمسيد شعرها بأطراف أناملي و همست بصوت هادئ و عيون شاردة تغص بالقلق :
سأكون على ما يرام يا طفلتي .

كانتْ قد مضت بعد ذلك مسرعة وقد أتقد وجهها خجلاً . صرخت بعد أن ابتعدتْ قليلاً لتُسمِعني وسط جؤر الرياح
المتوحشة التي كادت أن تفتتني كالرماد : "أحبك". ومن بعيد .. , رأيتها تلتفت لتلوح بيدها مودعة , وأدرك كلانا
بأنه وداع نهائي , بذاك الحس الماورائي المليء بلوعة تدفع الذات لتنبؤات مريرة لكنها حقيقيّة .
تابعت مسيرها الخاطف حتى غاب طيفها وسط الضباب , المختلط بالظلام , و ألفيتُ ذاتي هامدًا على مقعدي للحظة , في محاولة لفهم ما جرى , ولكن صوتًا غاضبًا قد هاجم سكينتي الثمينة من الخلف :

- يغلق المتنزه بالساعة الثامنة , أي بعد عشر دقائق . ولذا فعليك أن تخرج حالاً بعد أن استمعت لكل حوارك
وعرفت ميولك .

- هراء.. ماذا تقصد ؟

ابتسم الرجل بوقاحة وقال بلهجة لعوبة :

- هيئتك المتقشفة العصرية , أفكارك , وقت اجتماعك , كلها دلائل كافية لأن أعتقلك بتهمة التنظيم والتخطيط
لنشاطات تخريبية .

 واقرأ أيضًا على إبداعات أدبية:
 
كائنات خالية من الضوء، اشرب واحمد الله ، الريح والورد، القضية، من ملفات المهجر ، ذكريات ومشاهد من الحرب، الشيخ عبيد ، قالت: هو الوداع  ، باسم أطفال فلسطين: جنين، عفوا يا سيدتي!، أطفال الحجارة، فين العَلَمْ..؟؟، أنشودة سجين، من أشعار الوطن اللاوطن، "خُبط" أصبحنا، رسالة من إفريقي إلى إيما لازارْ، من قصيدة لبغداد، قـلَّـةُ فَـهْـمٍ قـليـلَـةُ الأدَبِ!، تقوى!، بيقـولـوا ..: عملوا لنا كـويز!!، أصواتُ العربِ!، لماذا ...... لماذا ؟!!، شكرا لكم: سليمان خاطر  

 


الكاتب: أحمد الكناني
نشرت على الموقع بتاريخ: 16/05/2005