إغلاق
 

Bookmark and Share

الشخصية المصرية: تعددية أم تناقض ::

الكاتب: أ.د محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 07/04/2007

الشخصية المصرية (1)

حين شرعت في الكتابة عن الشخصية المصرية شعرت بحيرة شديدة حيث وجدتني أمام كم هائل من الصفات والجوانب المتعددة والمتناقضة في نفس الوقت بحيث تجعل الصورة أشبه بمناطقنا العشوائية المنتشرة في طول البلاد وعرضها ففيها الفقر المدقع والغنى الفاحش, وفيها الظلم وفيها العدل, وفيها القسوة في أشد صوره (تعذيب حتى الموت) وفيها الرحمة في أجمل صورها (جمعيات خيرية وتكافل اجتماعي) وفيها العلم والعلماء (أربعة جوائز نوبل في بلد صغير نسبيا وفى فترة زمنية قصيرة) وفيها الجهل المطبق على غالبية سكانها, وفيها الاستبداد السياسي وفيها في ذات الوقت صحفا مستقلة وحزبية تتحدث بكامل الحرية وأحيانا تتجاوز كل الخطوط الحمراء, وفيها الأزهر والحسين والسيدة نفيسة والكاتدرائية المرقسية والجماعات الإسلامية والمسيحية, وفيها شارع الهرم واستوديوهات إنتاج الفيديو كليب, فيها الطيبة والقسوة, فيها الشهامة والنذالة, فيها السماحة والتعصب, فيها الفن الجميل والقبح الفاحش, فيها...... وفيها, وفيها......

وربما يقول قائل: وما الغرابة في ذلك أليست مصر مثل كل المجتمعات البشرية, والبشر فيهم كل هذ؟..... وهذا تساؤل مشروع ومنطقي ولكن في الشخصية المصرية وفى الحياة المصرية عموما تجد هذه التعددية وهذه المتناقضات صارخة إلى الدرجة التي جعلت عالما مثل موريس هيندوس (Maurice Hindus 1949) يردد أن مصر أرض المتناقضات (Land of paradox) ربما كما يقول جمال حمدانتحت تأثير التباين الشديد بين الفروق الاجتماعية الصارخة من ناحية, أو من ناحية أخرى بين خلود الآثار القديمة وتفاهة المسكن القروي, أو بين الوادي والصحراء حيث يتجاوران جنبا إلى جنب, ولكن كما تتجاور الحياة والموت.

ولذلك سوف نجد أنفسنا أمام سمات قد تبدو متباعدة أحيانا ومتناقضة أحيانا أخرى, وهذا يستدعى منا الكثير من الصبر وسعة الصدر والاحتمال لما سنعرضه عن هذه الشخصية المثيرة للإعجاب في لقطات والمثيرة للغضب والاستهجان في لقطات أخرى .

وقد وضع الدكتور ميلاد حنا كتابه "الأعمدة السبعة للشخصية المصرية" ليوضح فيه روافد تعددية وثراء وأحيانا تناقض سمات هذه الشخصية. ووضع أيضا جمال حمدان فصلا في كتابه شخصية مصر تحدث فيه عن تعدد الأبعاد والجوانب (شخصية مصر, كتاب الهلال, عدد 509, 993) وخلص إلى أن الأمة المصرية أمة متعددة الجوانب, متعددة الأبعاد والآفاق, مما يثرى الشخصية الإقليمية والتاريخية... فلها بعد آسيوي وبعد إفريقي وبعد نيلي وبعد متوسطي, وكل بعد من هذه الأبعاد يترك بصمته على الشخصية المصرية بشكل أو بآخر.
الشخصية المصرية بين التكيف والتشوه:

سألني يوما أحد أصدقائي الأجانب: كيف يعيش المصريون بمرتباتهم الهزيلة وكيف يدبرون حياتهم ونصفهم تحت خط الفقر دون أن يثوروا أو تنتشر بينهم الجريمة؟!!!......
وكان ردى وقتها أن المصريين لديهم قدرة هائلة على التكيف مع الظروف, ويبدو أن هذه القدرة اكتسبوها من تاريخهم الطويل في التعامل مع أنماط متعددة من الحكام والحكومات, وتغير الظروف والأحوال التي يعيشون تحت وطأتها, فلديهم مرونة كبيرة في التعامل, ولديهم قدرة على قبول الأمر الواقع والتكيف معه أيا كان هذا الأمر, ولديهم صبر طويل على الظروف الضاغطة والقاصمة, ولديهم أمل في رحيل من يظلمهم بشكل قدري لا دخل لهم فيه (اصبر على جارك السو, يا يرحل يا تجيله داهية تاخده), فهم يراهنون دائما على الزمن يحل لهم المشكلات, أو تتحلل معه (المشكلات وعزائمهم).

وعلى الرغم من بريق هذه القدرة العالية على التكيف في الظاهر إلا أن عين الباحث الموضوعي يرى أنها ربما تكون عيبا كبيرا في كثير من الأحوال, فالمصري كثيرا ما يقبل الأمر الواقع ويغير في نفسه وفى شخصيته وفى ظروف معيشته لكي يلائم هذا الواقع, وبالتالي لا يفكر كثيرا أو جديا في تغيير الواقع بل يميل غالبا للاستسلام له والتسليم به إلى درجة الخضوع المذل, ولهذا عرف عن المصريين ميلهم للاستقرار وعدم التغيير, وخوفهم من الجديد, وابتعادهم عن المغامرة أو المخاطرة, ورضاهم بما هو كائن, وصبرهم السلبي على ظروف تستحق المواجهة أو التغيير أو الثورة. ويبدو أن هذه السمات مرتبطة بالطبيعة الزراعية التي ترى أن دورها في الإنتاج الزراعي محدود ببذر البذرة وانتظار نموها دون تدخلات جذرية في هذا النمو سوى الرعاية والانتظار, وهذا يختلف عن المجتمع الصناعي الذي يشعر فيه الفرد (والمجتمع) بقدرته الكبيرة على التغيير والتوجيه والنمو.

وقد أدت محاولات التكيف المتكررة أو المستمرة مع ظروف ضاغطة وسيئة في فترات متعاقبة إلى حدوث تشوهات في سمات الشخصية لم ينج منها إلا قليل من الناس كانوا على وعى بهذا الأمر, أو قرروا الامتناع عن التكيف المشوه مع ظروف مشوهة. وهذه القلة من الناس تعانى ظروفا صعبة حين تتعامل مع مجتمع وافق غالبيته على قبول الأمر الواقع دون محاولة صادقة أو جادة لتغييره وهذا الأمر يضع تلك الأقلية في حالة غربة واغتراب وصعوبات حياتية كثيرة.

وإذا أخذنا مثلا لذلك موضوع الرشوة, فقد انتشرت بشكل وبائي في المجتمع المصري حتى أصبحت من القواعد الأساسية للتعامل مع موظفي الحكومة, ويقابلها البقشيش أو الإكرامية أو الدخان في القطاع الخاص, فإذا وجدنا شخصا شريفا يرفض هذا الأمر من منطلق أخلاقي, فإننا يمكن أن نتوقع كم الصعوبات التي سيواجهها في حياته اليومية مع أناس تعودوا لدرجة الإدمان على الرشوة بكافة صورها. وقس على هذا الأمر كثير من الأمور. ومع هذا فقد بقى في المصريين نماذج مشرفة في كل مجال وفى كل مكان يقاومون هذا الانحراف العام ويعطون الأمل بإمكانية تصحيحه يوما ما في ظروف تصل فيه هذه النماذج إلى مراكز التأثير (كيف؟..... لا ندرى؟...... حيث الرموز والقوى الداعمة والراعية للفساد أو الساكتة عنه والمتساهلة فيه مازالت متشبثة بمواقعه).

والشعب المصري ليس شعبا ثوريا, لذلك تمر سنوات طويلة على أي ظروف غير مواتية يعيشها, وغالبا يتحرك بعوامل خارجية نحو التغيير تضغط عليه فلا يجد مناصا من الحركة, أما لو ترك لذاته فهو يميل إلى استقرار الأوضاع إلى درجة الجمود أحيانا طمعا في الأمن وبقاء لقمة العيش حتى ولو كان أمنا ذليلا أو لقمة مرة.

ولكي يتمكن المصري من مواصلة التكيف وتحمل ثقل الأمر الواقع (الذي لا يسعى جديا لتغييره) فإنه يستخدم النكتة والقفشة والسخرية سلاحا يواجه به من فرض عليه هذه الظروف, وهذه الوسائل تقوم بتفريغ طاقة الغضب, إن كان ثمة غضب, وتؤدى بالتالي إلى استقرار الأمور, أو بالأحرى إلى بقاء الوضع على ما هو عليه, رغم قسوته وضغطه وتشوهه. ولهذا نجد الحكام, أو على الأقل بعضهم, لا يضيقون بما يصدره الشعب من نكات سياسية تمسهم, لأنهم يعرفون أن في ذلك تفريغ لطاقة الغضب الشعبي, وتأجيل لأي محاولة للتغيير.

واقرأ أيضًا:
اضطراب السلوك (التصرف) Conduct Disorder / القلق الديني عند المراهق / حين يتصدع العقل / الانتحار بين المرض والاختيار : الجزء الثاني / الصندوق الأسود لمذبحة ذكرى / أزمة منتصف العمر / التحليل النفسي لشخصية صدام حسين / بائع الورد : قراءة في شخصية عمرو خالد / أنماط التدين من منظور نفسي إسلامي / برنامج علاجي لحالات الشذوذ الجنسي  / قلق الامتحانات /  فن المذاكرة / حيرة مريض نفسي بين الطب والغيب / المازوخية  / الصحة النفسية للمرأة / نوبات الهلع عند المرأه  / الطفل البَك‍اء / المرأة في القرآن والسنة / صلاح جاهين وثنائية الوجدان / الصمت الزوجي  / سعاد حسنى والجرح النرجسي
البراجماتيزم ... دين أمريكا الجديد / اضطراب البوال / شخصيةالطاغية / العلاج بالقرآن من راحة سلبية إلى طمأنينة وجودية / الثانوية العامة .... مرحلة دراسية أم أزمة نمو؟ / الكــــــــــذب / كيف نمحو أميتنا التربوية؟ / سيكولوجية التبني.. الكفالة.. الأسرة البديلة / المكتئب النعّاب / سيكولوجية التعذيب / اضطراب العناد الشارد  / الحوار وقاية من العنف  / النضج الوجداني / الدردشة الالكترونية وحوار الأعماق/ سيكولوجية الاستبداد (الأخير) / السادو- ماسوشية (sado-masochism)  / الجوانب النفسية للعقم عند النساء / الدلالات النفسية لزواج الأمير تشارلز من عشيقته / ستار أكاديمي.. وإزاحة الستر  / العلاقة الحميمة بين الجسد والروح (4)  / ضرب الزوجات للأزواج( العنف العكسي ) / فن اختيار شريك الحياة (5) الشخبطة السياسية  / الزوج المسافر(4)  / قادة العالم واضطرابات الشخصية(2)  / قراءة في شخصية زويل(2)  / إبداعات الخريف عند نجيب محفوظ(3) / سيكولوجية الرجل / أزمة النمو في شعر عبد الرحمن الأبنودي(7)  / هل فعلها المجنون في بني مزار / ظاهرة العنف في المجتمع المصري(3)  / بين الإبداع والابتداع / الذوق والجمال في شخصية المسلم المعاصر / الجانب الأخلاقى فى شخصية المسلم المعاصر / جمال حمدان: المحنة ... العزلة ... العبقرية1 / أسباب فشل الحياة الزوجية  / كيف تعاملين زوجك.



الكاتب: أ.د محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 07/04/2007