إغلاق
 

Bookmark and Share

الأحلام والقراءة التكاملية للنص البشري ::

الكاتب: أ.د محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 18/08/2008


كنا في أحد البرامج التليفزيونية والتي شاركت فيها بصفتي طبيباً نفسياً بالمشاركة مع عالم دين وأحد مفسري الأحلام، واحتد النقاش حيث كان كل شخص يحاول قراءة الظاهرة من خلال أبجديات علمه ومعلوماته وخلفيته الثقافية، ولم يكن الخلاف والجدال والشقاق حول الأحلام كظاهرة، وإنما حول طرق تفسيرها ورموزها ومصادرها ومرجعية قراءتها. ولما ضاق مقدّم البرنامج وتحير وسط الرؤى المتناقضة سأل سؤالاً محدداً: وهل لو تركنا الأحلام بلا تفسير أو تأويل أيضرنا شيء؟ قلت: "لا"، ففرح وتهلل وقال: الحمد لله لقد خرجنا بحل ويكفينا واقعنا بما فيه من مشاكل، فعاودته قائلاً: ولكن ستصبح قراءتنا للنص البشري ناقصة، فالأحلام تكمل لنا الفراغات الموجودة (أو بعضها) في ذلك النص، وتعطينا فكرة عن الأجزاء الكامنة في الظل من نفوسنا بغرائزها واندفاعاتها ومخاوفها واحتياجاتها، وربما بتاريخنا الشخصي (بكل امتداده) وتاريخنا الإنساني (بكل أو بعض امتداداته)، وهنا اختفت البسمة من على وجه مقدم البرنامج وعاودته حيرة أشد مما قبل، وكان وقت النهاية قد اقترب فأغلق الملف على تساؤلات أكثر مما بدأ به البرنامج وأسفت أنني نزعت منه فرحته في نهاية البرنامج.

قد يكون من المفيد أن نذكر هنا ما لم يتسع له وقت البرنامج أو تحتمله المناقشات المحتدة. فلقد حاول بعض علماء النفس المحدثون فتح ملف الأحلام وإعادة قراءة هذه الظاهرة من جديد، وفيما يلي نستعرض بعض هذه القراءات، ولا أعدك عزيزي القارئ بإجابات شافية أو قاطعة، بل أحاول معك الإلمام ببعض جوانب الظاهرة من خلال آليات ومناهج مختلفة للقراءة على أساس أن لهذه الظاهرة امتدادات وتشعبات مختلفة قد لا يحيط بها منهج واحد في القراءة:

التحليليون والأحلام:
اهتم فرويد كثيراً بموضوع الأحلام على أساس أن الأحلام كانت تشكل بالنسبة إليه نافذة يطل منها على اللاشعور فيعرف الكثير عن هذه المنطقة المستترة والهامة والمؤثرة في حياة الشخص. وقد ألّف فرويد كتابه الشهير "تفسير الأحلام" سنة1900م، وكان لهذا الكتاب وما ورد فيه تأثيراً هائلاً على نظرة علماء النفس ولسنوات طويلة رغم ما تعرّض له من انتقادات قوية وموضوعية ورغم ما شابه من جوانب ضعف.

وظل فرويد يبني نظريته في الأحلام ويعدّل فيها حتى استقر رأيه الأخير فيها حوالي سنة 1958 أن النوم يتميز بقلة تعرض الشخص للمؤثرات الخارجية وابتعاده تماماً عن الواقع، وفي هذا الجو الهادئ تنشط الصراعات الداخلية اللاشعورية والرغبات غير المقبولة في الحياة العادية حيث تجد هذه الأشياء مجالاً أكبر أثناء النوم لعملها ولكن هذه الأشياء لا تظهر في الحلم بصورتها الفجّة حتى لا تزعج الأنا الأعلى (الضمير) وتوقظه وبالتالي توقظ الشخص وتقطع عليه نومه، وإنما هي تأخذ أشكالاً رمزية حتى تفرغ شحنة اللاشعور دون إزعاج للجهاز النفسي.

تكوين الحلم عند فرويد (Dream Work):
يعني هذا التعبير عند فرويد تحويل المحتوى الخفي للحلم في اللاشعور إلى محتوى ظاهر في الحلم ويتم ذلك من خلال التحور والتشوه للمحتوى اللاشعوري الخفي حتى يُسمح له بالظهور في صورة حلم. وقد استخدم فرويد نظريته هذه في تفسير الأحلام للتعرف على محتويات اللاشعور وعملياته، ولتفسير الكثير من أحداث الحياة اليومية ومعرفة لغة الإبداع الفني وتحليل الفكاهات والدعابات والكثير من النشاط العقلي للفرد وبيئته.

ويرى فرويد أنه أثناء النوم يحدث استرخاء لعملية الكبت التي تحدث أثناء اليقظة وهذا يعطي فرصة للرغبات اللاشعورية للظهور. وحيث أن الجهاز الحركي للشخص يتوقف أثناء النوم فإن هذه الرغبات لا تجد الفرصة أمامها للتحقيق إلا في صورة خيالات ويتحقق هذا من خلال شيئين:
الأول: هو تحويل هذه الرغبات إلى أفكار.
الثاني: هو تحويل الأفكار إلى صور تستمد من تلك الصور المحفوظة في الذاكرة بحيث يتم تجميعها بشكل معين لتؤدّي الغرض المطلوب.

ويستمد الشخص هذين الشيئين- الفكرة والصورة المعبرة عن الحلم- من خلال تجاربه الشخصية في أحوال يقظته، وتتدخل أيضاً المثيرات المحيطة بالشخص أثناء نومه من ضوء وصوت وخلافه مع الرغبات اللاشعورية لتكوّن في النهاية محتوى الحلم. ولكن محتوى الحلم هذا لا يستطيع أن يعلن عن نفسه صراحة لأنه عبارة عن رغبات ودوافع غير مقبولة اجتماعياً، لذلك فهي تمنع من التعبير الصريح بواسطة جهاز رقابة في النفس. إذن، لكى تمر من جهاز الرقابة هذا لا بد وأن يجري لها عملية تنكر لتستطيع المرور، ويتم هذا بواسطة أربعة عمليات هي:
(1) الإزاحة.
(2) التكثيف.
(3) الرمزية.
(4) الإسقاط.

ولكن الذي يحدث أن محتوى الحلم بعد أن يمر بهذه العمليات الأربعة يصبح غير مفهوم ومتقطع ومتناثر. وكل هذه العمليات تتم في منطقة اللاشعور، وعندما ينجح الحلم في المرور من هذه المنطقة الغامضة ويصل إلى منطقة ما قبل الشعور فإنه تتم عملية "مونتاج" ومراجعة وإعادة تنظيم وترتيب لمحتوى الحلم حتى يصل إلى منطقة الشعور في صورة مناسبة. ولنأخذ مثلاً لهذا: أن هناك إنسان يحمل كراهية لأبيه، وهو لا يستطيع أن يعبّر عن هذه الكراهية في اليقظة نظرا لما يحمله رمز الأب من معان يجب احترامها، لذلك فلا يمكن لهذا الشعور وما يصاحبه من رغبة في الانتقام أن يعبر عن نفسه حتى في الحلم بهذه الصورة الفجّة، ولذلك يحدث تحويل لهذه المشاعر العدوانية نحو صورة رجل آخر في الحلم، وتسمى هذه العملية"إزاحة" (Displacement) ويتم تكثيف وتجميع كل صفات الأب المرفوضة في هذا الرجل الآخر، وتسمى هذه العملية "تكثيفاً" Condensation، ويكون هناك علاقة رمزية بين هذا الرجل وبين الأب كتشابه رمزي في بعض الملامح أو بعض حروف الاسم، وتسمى هذه العملية "ترميزاً" (Symbolization)، ثم يسقط الابن مشاعره العدوانية على أبيه بحيث يبدو أن الأب هو الذي يريد شراً بابنه ويحاول الاعتداء عليه ويأتي في صورة رجل آخر مخيف الشكل، وتسمى هذه العملية "إسقاطا" (Projection).

بعض جوانب تكوين الحلم عند فرويد:
1. المشاعر في الحلم:
إن محتوى اللاشعور الجنسي أو العدواني يظهر في صورة مشاعر أو انفعالات بعد تحوره وتخفيه من خلال العمليات السابق ذكرها، وهذه المشاعر والانفعالات تظهر في الحلم بصورة مخففة أو محورة أو قد لا تظهر على الإطلاق، أو يظهر عكسها، فمثلاً العدوانية المكبوتة ناحية شخص معين قد تظهر في صورة ضيق بسيط تجاه هذا الشخص، أو قد لا تظهر أية مشاعر على الإطلاق تجاه هذا الشخص ولكنه يتواجد فقط ضمن أحداث الحلم ومشاهده، أو قد تظهر في صورة مشاعر عكسية للمشاعر الحقيقية تجاه هذا الشخص.

2. أحلام القلق:
إذا عجزت الآليات( الميكانيزمات) الأربعة السابق ذكرها( الإزاحة والتكثيف والرمزية والإسقاط) عن تحوير محتوى الحلم ففي هذه الحالة يصل محتوى اللاشعور إلى الشعور فجّاً صريحاً ومهدداً للجهاز النفسي (الأنا بالتحديد)، وهنا يحدث الخوف والقلق أثناء الحلم وربما يستيقظ النائم في حالة فزع شديدة.

3.
أحلام العقاب:
حين تمر مشاعر الجنس أو العدوان من اللاشعور إلى الشعور دون تحوير وتستر كاف فإن الأنا يشعر بعدم القدرة على السيطرة وكبت هذه المشاعر، وفي نفس الوقت يتوقع العقاب من الأنا الأعلى (الضمير)، وهكذا يتجسد معنى العقاب على الشخص في الحلم.

4. الرمزية:
لقد حاول فرويد وضع مفتاح لفك رموز كل الأحلام وكان هذا المفتاح متماشياً مع نظريته التي تولي الجنس ودوافعه أهمية عظمى في تفسير الجانب الأكبر من سلوك الإنسان. فقد افترض فرويد أن الأشياء المستطيلة في الحلم كالعصا والثعبان والقلم ترمز إلى الأعضاء الجنسية للرجل وأن الأشياء الدائرية أو المجوفة مثل الكهف والطبق والحجرة.. إلخ ترمز إلى الأعضاء الجنسية للأنثى.

تعليق على نظرية فرويد في الأحلام:
بالطبع فإن التعليق على نظرية فرويد للأحلام يستوجب إعادة النظر لنظرية التحليل النفسي ككل، ولكننا هنا سنحاول جاهدين عدم الخروج عن الموضوع المحدد الذي نحن بصدده وهو الأحلام.

إن فرويد كان متفردا في قدرته على السماع الجيد والرؤية الدقيقة والملاحظة الذكية لعدد كبير من المرضى النفسيين. وقد دون كل ملاحظاته بدقة شديدة وكان منها فوائد لا تنكر في فهم بعض جوانب النفس، ولكن خطؤه هو في تجاوز هذه الملاحظات إلى كم هائل من التفسيرات اللفظية والفلسفية التي لا يستطيع أن يدعمها بالدليل والبرهان. ولقد رفض الكثيرون من العلماء الموضوعيين معظم افتراضات فرويد لأنها لم تقم على أسس علمية بل اعتبروها آراء شخصية قابلة للبحث أو المناقشة.

وفرويد في موضوع الأحلام قصرها على حديث النفس مع بعض المؤثرات الخارجية على الشخص أثناء النوم وألغى أي احتمال لاتصال النفس بالعالم غير المرئي وقد كان هذا متمشياً مع عقيدته المادية الإلحادية التي تنكر الدين وبالتالي تنكر التأثير الغيبي، مع أن اللاشعور الذي تحدث عنه هو نفسه يعتبر منطقة سرية مجهولة أكثر من الغيب الذي أنكره. ولم يكن عند فرويد أدلة موضوعية لإثبات ما قال، ولم يكن عنده أيضاً أدلة موضوعية لإنكار ما أنكر، ولكنه استطاع بقدرته الفائقة في سرد الموضوع بشكل متسلسل وألفاظ متماسكة أن يوهم من يقرأ له أنه أمام حقائق ثابتة وليس أمام فروض لا تقوم على أسس اللهم إلا بعض الملاحظات الإكلينيكية التي لا تستوجب بالضرورة هذا الكم الهائل من الاستنتاجات والفروض.

وحين حاول فرويد تفسير الأحلام أجرى عملية تعميم وتبسيط مخل بالحقيقة حين جعل كل شيء مستطيل يعني العضو الجنسي للرجل وكل شيء دائري أو مجوف يرمز للعضو الجنسي للأنثى.

ولقد اتضح من خلال الدراسات التي تمت بعد ذلك بوسائل أكثر تطوراً ودقة وبواسطة علماء منهجيين- اتضح أن كلام فرويد كان يميل إلى التبسيط المخل في موضوع الأحلام( وغيرها) وأن الموضوع أكثر تعقيداً من ذلك.

وحتى من سبقوا فرويد كانت نظرتهم لموضوع الأحلام أوسع منه بكثير فقد عرفوا حديث النفس الذي زاد هو فيه وأفاض وعرفوا بجانبه التأثيرات الفسيولوجية الخارجية والداخلية على الأحلام وعرفوا أكثر من ذلك أن هناك صلة بين الإنسان وبين عالم الملكوت تلك الصلة التي أنكرها أو سكت عنها فرويد وجعلته يقع في مأزق أمام الكثير من الرؤى الصادقة التي لا يفسرها حديث النفس ولا رغبات اللاشعور.

الأحلام عند علماء العرب والمسلمين:

ونورد فيما يلي بعض آراء علماء المسلمين الأوائل وهذه الآراء ذكروها قبل فرويد بحوالي700سنة ليتضح كيف كانت نظرتهم للأحلام أوسع وأشمل:
قال المازري:
كثر كلام الناس في حقيقة الرؤيا، وقال فيها غير الإسلاميين أقاويل كثيرة منكرة لأنهم حاولوا الوقوف على حقائق لا تدرك بالعقل ولا يقوم عليها برهان، وهم لا يصدقون بالسمع، فاضطربت أقوالهم، فمن ينتمي إلى الطب ينسب جميع الرؤيا إلى الأخلاط فيقول:
من غلب عليه البلغم رأى أنه يسبح في الماء، ونحو ذلك لمناسبة الماء طبيعة البلغم. ومن غلبت عليه الصفراء رأى النيران والصعود في الجو.. وهكذا إلى آخره، وهذا وإن جوزه العقل، وجاز أن يجري الله العادة به، لكنه لم يقم عليه دليل ولا اضطردت به عادة، والقطع في موضع التجويز غلط.

ومن ينتمي إلى الفلسفة يقول: إن صور ما يجري في الأرض، هي في العالم العلوي كالنقوش، فما حاذى بعض النقوش منها انتقش فيها. وهذا أشد فساداً من الأول، لكونه تحكماً لا برهان عليه، والانتقاش من صفات الأجسام، وأكثر ما يجري في العالم العلوي الأعراض، والأعراض لا ينتقش فيها.

قال: والصحيح ما عليه أهل السنة: أن الله يخلق في قلب النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان، فإذا خلقها فكأنه جعلها علماً على أمور أخرى يخلقها في ثاني الحال. ومهما وقع منها على خلاف المعتقد، فهو يقع لليقظان، ونظيره أن الله خلق الغيم علامة على المطر، وقد يتخلف. وتلك الاعتقادات تقع تارة بحضرة الملك فيقع بعدها ما يسُر، أو بحضرة الشيطان فيقع بعدها ما يضُر.

وقال القرطبي:
"سبب تخليط غير الشرعيين إعراضهم عما جاءت به الأنبياء من الطريق المستقيم. وبيان ذلك أن الرؤيا إنما هي إدراكات النفس، وقد غُيّب عنا علم حقيقتها- أي النفس- وإذا كان كذلك فالأولى ألا نعلم علم إدراكاتها، بل كثير مما انكشف لنا من إدراكات السمع والبصر إنما نعلم منه أموراً جميلة لا تفصيلة".

ولا يقتصر علماء المسلمين على ذكر تأثير الأخلاط (المؤثرات الفسيولوجية بلغتنا العصرية) والرسائل الغيبية (الإدراكات) التي تؤثر في الأحلام وإنما عرفوا أيضاً حديث النفس وما يعتمل فيها من أمان ورغبات. فها هو القرطبي يقول في"المفهم": "وأما ما يرى أحياناً مما يعجب الرائي ولكنه لا يجده في اليقظة ولا ما يدل عليه، فإنه يدخل في قسم آخر، وهو ما كان الخاطر به مشغولاً قبل النوم، ثم يحصل النوم فيراه".

وقد كانت هذه الرؤية الشاملة والمتعددة الزوايا سبقاً عظيماً لعلماء المسلمين في هذا المجال في وقت كان الناس فيه يعممون رؤيتهم للأحلام على أنها رسائل غيبية فقط تبثها الملائكة أو الشياطين.

إذن فنظرة فرويد للأحلام كانت أضيق ممن سبقوه ب700سنة حيث حصر الأحلام في جانب واحد هو حديث النفس.. ولم يكتف بذلك بل ضيق حديث النفس أثناء نومها فحصره في الرغبات الجنسية والعدوانية، وأهمل متعمداً جوانب كثيرة من إدراكات النفس ومن اتصالها المنطقي بالعوامل الأخرى وتعامي عن ظاهرة الرؤى الصادقة الثابتة دينياً وتاريخياً... والتي نلاحظها أيضاً في حياتنا الحاضرة رغم ندرتها. وهذا لا يعني أبداً خلو تفسيرات فرويد لتكون الحلم من منطقية، فقد أعطى أرضية نستطيع بها فهم بعض أنواع الأحلام بشكل جيد.

التطوريون والأحلام:
يقول الدكتور يحيى الرخاوي في كتابه القيّم والعميق "دراسة في علم السيكوباثولوجي":
"إذا كان فرويد قد أقام الدنيا (ولم تقعد) باكتشافه مفتاحاً خاصاً يفسر به الأحلام.. فإنه لم يفعل سوى أن فتح الباب على عالم الإنسان الداخلي وإمكانية تعميق فهم الإنسان من خلال رموزه ومحتويات لا وعيه.. غير أن الاستغراق في البحث في "المحتوى" و"الرمز" و"التفسير" قد أخّر بشكل أو بآخر محاولة فهم طبيعة الظاهرة، ويبدو أن الاكتشاف الجديد للنوم الحالم سوف يكون هو المفتاح السلس لفهم جديد للإنسان من منظور بيولوجي عملي مباشر مع اعتبار الفروض التالية:
1. إن النوم ليس حالة من عدم النشاط أو البلادة أو الكسل.
2. إن الأحلام ليست حالة من التشوش وتحقيق الرغبات في الخفاء والتعبير الملتوي والرمزي عن العلاقات والوجود.
3. إن الأحلام والنوم عامة ليست حالة أدنى من حالة اليقظة ولا هي أعلى بداهة، ولكنها حالات متبادلة لكل منها وظيفتها لا أكثر ولا أقل.
4. إن الأحلام (والنوم) إنما تعتبر البناء التحتي للتركيب المخي وهي بذلك أشد ما تكون لزوماً لعمل البناء الفوقي (الوعي والإرادة)- إذ يكمل كل بناء عمل الآخر حتماً.
5. يمكن أن تقسم دراسة الحلم إلى دراسة الظاهرة نفسها وهذا هو المهم من وجهة نظر بيولوجية تكاملية ثم دراسة "رواية" الحلم وهذا مهم وإن كان لا يعتمد عليه إلا من وجهة نظر تفسيرية اجتهادية حتى ليقال إن ظاهرة الأحلام نفسها تنتمي إلى البناء التحتي في حين أن الحلم المحكي أو المروي فينتمي إلى البناء الفوقي.
6. إن الحرمان من النوم (ومن الأحلام كظاهرة ووظيفة) ما هو إلا بتر لنصف الدورة المخية اللازمة لاستمرار توازن المخ وسريان مجرى السلوك والإنتاج ومن ثم تظهر المضاعفات المعروفة من هلاوس وخداع حسي ثم احتمال تفسخ مؤقت أو دائم.

وإذا عجزت الأحلام عن وظيفتها في إطلاق طاقات المخ الكامنة وتآلف مستوياته والتقريب بين النقائض داخل النفس وتكرر هذا العجز ليلة بعد ليلة نشأ المرض النفسي. ويرجع سبب هذا العجز عادة إلى بعد شقي الوجود عن بعضهما مما يترتب عليه أن تلقى الخبرات التي لم يعشها الفرد بدرجة كافية، والتي تملأ مخزون المخ أثناء اليقظة- تلقى بعيداً جداً عن متناول الوعي أولاً بأول، وتتم الأحلام في هذه الحالات كظاهرة فسيولوجية عاجزة عن الإطلاق والتوليف وإعادة الإعاشة. ونتيجة لذلك يتبقى كل ليلة "كم" لم يعامل من المعلومات المدخلة يسمى "المتبقي الغائر"، ويتجمع هذا المتبقي عبر الشهور ويقل غوره رويداً رويداً حتى يقترب من السطح الواعي ويخرج في صورة مرض نفسي صريح بعد هذا التفريغ المرضي (وهو بديل عن وظيفة الحلم العادية) تعود الشخصية إلى سابق عهدها في حالات الذهان الدوري أو تعود إلى مستوى أدنى في حالات الفصام الدوري. وقد تتكرر هذه العملية في فترات تتناسب مع قدر المتبقي وسرعة تراكمه والمدة اللازمة لتجمعه، وكل ذلك يتناسب مع عجز الأحلام عن القيام بوظيفتها".

ويضيف الدكتور الرخاوي قائلاً: "إن النوم والأحلام هما صمام الأمن الطبيعي ولا بد من العناية بالسماح لهما أن يقوما بوظيفتهما الطبيعية دون استغراق انحرافي في الاهتمام بالمحتوى المروي بقدر الاهتمام بالوظيفة ذاتها.. والنظر في عائدها بما تحدث من تنفيس كصمام آمان".

برجسون والأحلام:
وبرجسون يقول إننا في الحقيقة لا ننام! وإن حواسنا في الحقيقة لا تنام، وإنما هي تنعكس فقط وتسترخي، بمعنى أننا نظل نحس، ونظل نرى، ونظل نسمع في أثناء النوم، ولكن مرئياتنا وإحساساتنا تأتي إلينا باهتة مغلفة بالضباب، فنحن إذا أغلقنا عيوننا وأسدلنا أجفاننا فإن مسرح الرؤيا لا ينطفئ تماماً من أمامنا وإنما نظل نرى نقطاً مضيئة ودوائر وخطوطاً وبقعاً مظللة وبقعاً ملونة، تتحرك وتتمدد وتنكمش في مجالنا البصري. وعلماء العيون يقولون إن هذه النقط والدوائر والبقع سببها الدورة الدموية في قاع العين وضغط الأجفان على القرنية..

أما برجسون فيعتقد أن هذه النقط هي المسحوق الضوئي الذي تنشأ منه الأحلام، إنها مثل علبة الألوان ومسحوق الطباشير والباستيل الذي يلون به الرسام لوحته. وبالمثل تظل آذاننا مفتوحة في أثناء النوم وتظل الأصوات تتسلل إلى أعصابنا وتثيرها. وبالمثل يظل جلدنا حساساً ويظل ينقل إلى أعصابنا كل شكة وكل لدغة، وكل لفحة ساخنة وكل رعشة باردة وكل إحساس بالخشونة أو النعومة أو الضغط.

وأحشاؤنا لا تنام هي الأخرى.. وإنما تظل في حركة دائمة طول الليل.. وقد تبعث إحساساً بالانتفاخ أو المغص أو الغثيان، وعظامنا قد تبعث هي الأخرى أوجاعاً وآلاماً... ومعنى هذا أن الجسم لا ينام. وإنما يظل مثل مدينة مفتوحة تغزوها المشاعر والأحاسيس من كل جانب، وما الأحلام سوى التهافت الذي يحدث حول كل إحساس من هذه الأحاسيس.

وبرجسون يقول أكثر من هذا.. يقول إنه حتى في اليقظة تستطيع الذاكرة أن تشكل رؤية وهمية تشبه ما يحدث في الأحلام.. فالقارئ أحياناً يمرّ على الخطأ المطبعي في الصحيفة وفي الكتاب فلا يفطن إليه، ويقرأ الكلمات كما لو كانت صحيحة! والسر في هذا أن شكل الكلمات في أرشيف ذاكرته صحيح، وذاكرته تصور له الإملاء الصحيح في أثناء القراءة وتسد الفجوات المطبعية نتيجة السهو أو الخطأ فيرى الكلمات كما لو كانت صحيحة ويقرؤها سليمة ولا يفطن إلى أخطائها.

وهكذا يظل الباب مفتوحاً لقراءات متعددة لظاهرة محيرة تمتد أذرعها لعالم المخ بتركيباته ووظائفه، وعالم النفس بتعقيداته وحركيته، وعالم الغيب بمجهولاته، ويحدث كل هذا في وسط ثقافي ومجتمعي يمد الحلم بمادته الأولية، ويبقى الحلم بسبب هذه التعددية والتشابكية لغزاً يبحث عن مزيد من القراءات الموضوعية والتكاملية بعيداً عن عوالم الخرافة والدجل.

واقرأ أيضًا:
التحليل النفسي لشخصية صدام حسين / بائع الورد : قراءة في شخصية عمرو خالد / أنماط التدين من منظور نفسي إسلامي / برنامج علاجي لحالات الشذوذ الجنسي  / قلق الامتحانات /  فن المذاكرة / حيرة مريض نفسي بين الطب والغيب / المازوخية  / الصحة النفسية للمرأة / نوبات الهلع عند المرأه  / الطفل البَك‍اء / المرأة في القرآن والسنة / صلاح جاهين وثنائية الوجدان / الصمت الزوجي / سعاد حسنى والجرح النرجسي
البراجماتيزم ... دين أمريكا الجديد / شخصيةالطاغية / العلاج بالقرآن من راحة سلبية إلى طمأنينة وجودية / الثانوية العامة .... مرحلة دراسية أم أزمة نمو؟ / الكــــــــــذب / كيف نمحو أميتنا التربوية؟ / سيكولوجية التبني.. الكفالة.. الأسرة البديلة / المكتئب النعّاب / سيكولوجية التعذيب / اضطراب العناد الشارد / الحوار وقاية من العنف  / النضج الوجداني / الدردشة الالكترونية وحوار الأعماق/ سيكولوجية الاستبداد (الأخير) / السادو- ماسوشية (sado-masochism)  / الجوانب النفسية للعقم عند النساء / الدلالات النفسية لزواج الأمير تشارلز من عشيقته / ستار أكاديمي.. وإزاحة الستر  / العلاقة الحميمة بين الجسد والروح (4) / ضرب الزوجات للأزواج( العنف العكسي ) / فن اختيار شريك الحياة (5) الشخبطة السياسية  / الزوج المسافر(4)  / قادة العالم واضطرابات الشخصية(2)  / قراءة في شخصية زويل(2) / إبداعات الخريف عند نجيب محفوظ(3) / سيكولوجية الرجل / أزمة النمو في شعر عبد الرحمن الأبنودي(7) / هل فعلها المجنون في بني مزار / ظاهرة العنف في المجتمع المصري(3)  / بين الإبداع والابتداع / الذوق والجمال في شخصية المسلم المعاصر / الجانب الأخلاقى فى شخصية المسلم المعاصر / جمال حمدان: المحنة ... العزلة ... العبقرية1 / أسباب فشل الحياة الزوجية / كيف تعاملين زوجك / مؤتمر العلاج بالقرآن بين الدين والطب / الدوافع ودورها في النجاح والتفوق / العادة السرية بين الطب والدين(2) / حين يصل الفساد لمواطن العفة(1) / المعارضة.. من النفس إلى الكون(2) / الباشا والخرسيس / الجنسية المثلية بين الوصم والتفاخر / الزملكاوية!  / الانتصار البديل في الساحة الخضراء / التحول الجنسي بين الطب والدين / شيزوفرينيا / الفهلوة اللغوية العصبية / من المحلة إلى مارينا وبالعكس / الطلاق المتحضر (تسريح بإحسان).



الكاتب: أ.د محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 18/08/2008