إغلاق
 

Bookmark and Share

لكنّ سيّد قومه المتغابي..!! ::

الكاتب: أ.د يحيى الرخاوي
نشرت على الموقع بتاريخ: 24/06/2008


سألتني مذيعة الإذاعة البريطانية عن مفهوم الغباء بمناسبة إعداد برنامج عن حركة مصرية جديدة سمت نفسها "مواطنون ضد الغباء"، فابتسمت ولم أرد على الفور، ولم أعرف كيف رأت ابتسامتي لأن السؤال كان عبر الهاتف، ذلك أنها أكملت وهى تضحك هل لا يوجد تعريف للغباء، قلت لها إن كثيرا من معاجم اللغة العربية الأصيلة تعرف الشيء بضده، فيمكن أن نقول إن الغباء هو ضد الذكاء، قالت فما هو تعريف الذكاء، ثم مضى الحديث خفيفا طريفا حتى وصلنا إلى النقطة التي تريدها وهى تسألني عن رأيي في هذه الحركة المسماة "مواطنون ضد الغباء"، فشرحت لها وجهة نظري من أن موجة ابتداع مثل هذه الحركات ليست فاعلة سياسيا كما يتصور الكثيرون لكنها رمزية وقد تفيد أو تنّبه، وهي تبدو لي أحيانا كصورة كاريكاتيرية، ناقدة، لا أكثر، كما أضفت تحذيرا أن تكون غاية مرادنا هو أن ننضم إلى هذه الحركة أو نصفق لتلك، وأيضا لا يحق للمعتزلين أن يفرحوا بموقفهم وهم جلوس على مكاتبهم يشجبون ما لا يشاركون فيه، لا أذكر ألفاظ حوار الإذاعة البريطانية حرفيا، لهذا سوف أكمل تعتعة اليوم بعيدا عن نص الحديث، هي فقط من وحيه.

من قديم ونحن النفسانيين- نحتار في تعريف محدد للذكاء، حين بدأت تلك المحاولة وأنا أكتب كتابا مدرسيا بالعربية في أوائل الستينات وجدت أن أغلب المراجع تشاركني الصعوبة والحيرة حتى أن أحدها عرّف الذكاء ربما سخرية- كما يلي: "الذكاء هو ما تقيسه اختبارات الذكاء"، وفى نفس الوقت وجدت نقداً لهذه الاختبارات يقول "إنها لا تقيس إلا نتائجها" وليس الذكاء، ساعتها قلت بسخريتنا المصرية إذن الذكاء هو الذكاء، ربما قلت ذلك من وحي، ما جاء في قاموس المرحوم أحمد أمين عن طرائف العادات الشعبية المصرية لشاعر ساخر يتحدى إمكانية التعريف قائلا!!
الأرض أرضٌ والسماءُ سماءُ
والماء ماءٌ والهواءُ هواءُ
والحلو حلوٌ والمرارة مرةٌ
وجميع أشياء الورى أشياءُ
كل الرجال على العموم مذكر
أما النساء فكلهن نساء
قلت لنفسي وجدتها: إذن من حقنا أن نضيف
والفهم فهم والغباءُ غباوةُ
والفكر فكرٌ والذكاء ذكاء

لماذا يحشرون الطب النفسي مع قصوره هذا- في تصنيف تصرفات الحكومة "والحركات"؟!
سألتني المذيعة عن رأيي في غباء الحكومة، فقلت لها ربما يكون ذلك نعمة من الله على هذا الشعب المسكين، لأن تباطؤ المسئول الغبي في أدائه العقلي قد يقلل من اندفاعه، وهذا يسمح لبعض الأمور أن تحل نفسها بنفسها، بدلا من أن يندفع بذكائه المتواضع أو المزعوم، فتخرب أسرع، قالت إن هذه الحركة الجديدة تشير إلى أن تصرفات الحكومة الأخيرة (العلاوة تلحسها قرارات رفع الأسعار) تتصف بالغباء، ما رأيك؟

قلت لها إن من أهم محكات الذكاء هي: "القدرة على الربط بين العلاقات الأساسية والاستفادة من الخبرات السابقة ثم التصرف ببعد نظر"، وأظن أن الحكومة لا تتمتع بأي من هذه الميزات الثلاثة، وخاصة "التصرف ببعد نظر".

فعادت المذيعة تحدد السؤال عن رأيي في التصرف الأخير (العلاوة فلحسها) لأنه يبدو أن هذا بالتحديد كان وراء ظهور هذه الحركة الاحتجاجية الطريفة، فرددت بما تيسر.
بعد أن انتهى الحديث فكرت من جديد في هذا التصرف (العلاوة فلحسها) ورحت أستبعد أن يتصرف مسئول سياسي عاقل بمثل هذا التصرف الذي يبعده عن الناس، ويفضح عشوائيته وتخبطه، ويقلل من شعبيته إن كانت له شعبية، بل وقد يعجّل بنهايته إن كانت هناك آلية أصلا لاحتمال ذلك، لم أتصور أن هذا التصرف يأتيه عاقل مهما بلغ تواضع ذكائه، فمن يا ترى دفع بالحكومة إلى فعل ذلك؟

خطر ببالي أنه ربما يكون وراء هذا التصرف مراكز قوى ذكية وخبيثة أرادت أن توقع بالحكومة، فأوحت لها أن تتصرف هكذا، فاستجابت الحكومة بسذاجة ليس فيها رائحة السياسة، لتقع من طولها (إذا كان ذلك وارد أصلاً!!) ولا أحد يسمِّي عليها.

نصيحتي للحكومة أن تبحث في مطبخ قراراتها عن هذا الدخيل الذي استعبطها هكذا فأوقعها في شر تصرفها وهى ماضية في تصريحات خطابية وبيانات مُفرغَة من أي منطق، نعم أنصحها ألا تكتفي بالحذر من تصرفات غبية لبعض القائمين على اتخاذ القرار، عليها أن تنتبه أصلا إلى احتمال خبث المتغابين المندسين في مطبخ صنع القرار، ربما يكونون وراء مثل هذه القرارات
أقول ذلك وأنا أتذكر قول الشاعر الآخر:
ليس الغبيُّ بسيدٍ في قومه
لكن سيد قومه المتغابي!!

نشرت في الدستور بتاريخ 4-6-2008

اقرأ أيضا:
تعتعة سياسية: حاول ألا تفهم...! / تعتعة:الحلم والشعر والواقع والسياسة
 / تعتعة: فحتى المحاكاة ليسوا لها / تعتعة لطبيب النفسي، ومفهوم "الإنسان"1 /  تعتعة سياسية يا رب سترك / تعتعة سياسية تجاوز للعلم..ووشم للمرضى! / تعتعة نفسية هل توجد عواطف سلبية؟ / تعتعة نفسية: عندك فصام يعني إيه(2) / تعتعة نفسية عندك فصام يعني إيه؟ / تعتعة نفسية: أنا عندي إيه يا دكتور؟ / تعتعة نفسية العلاج بوصفة الأعراض(3) / تعتعة نفسية العلاج بوصفة الأعراض(2) / تعتعة نفسية العلاج بوصفة الأعراض(1) / تعتعة سياسية: الشعب المصري ملطشة / حركية الناس بين النت والشارع / تعتعة: التغابي حيث لا داعي للتحايل!  /  يا هنود العالم الحُمْر، اغضبوا أو انقرضوا..! / تعتعة سياسية حتى لو أجهضوها ألف عام!  / الدين العالمي الجديد! هيه..!وضحكت عليك!! / قبلات وأحضان، وحوار الأديان / صيد الأحاسيس، وذباب الكلمات في معرض الكتاب  / خليَط من الرأي والشعر: قوة النظام في ضعفه / أحب المؤرخين، ولا أثق في التاريخ / الشعور بالذنب في السياسة والحرب / سياسة دي يا يحيى؟!؟! / تخثُّر الوعي الوطني (والثقافة) / الحلول الذاتية: "نعمل إيه"؟ "نعمل جمعية"!! / من كلِّ صوبٍ وحدبْ، من كل دينٍ ودربْ / .. شم النسيم../ السياسة واللغة الشبابية والتراث الشعبي / السياسة ولغة الشارع: .. فى الهرْْدَبِيزْ (3 من 3) / السياسة ولغة الشارع: .. فى الهرْْدَبِيزْ (3 من 3) / "مؤامرة العولمة" و"عولمة المؤامرة" / برغم كل الجاري، مازال فينا: ".. شيءٌ مـَا" 



الكاتب: أ.د يحيى الرخاوي
نشرت على الموقع بتاريخ: 24/06/2008