أأسافر أم أبقى؟
السلام عليكم، أنا فتاة في الخامسة والعشرين، ومشكلتي هي صراع نفسي يعتملني. وبها شقان: أحدهما اجتماعي والآخر ديني.
لقد أنهيت دراسة الماجستير، وقررت الحصول على الدكتوراه، ولدي فرصة للسفر إلى الخارج والحصول عليها من أفضل الجامعات، وأنا شديدة التفوق، وعلى قدر عالٍ من الذكاء الحمد لله.
الأمر أنها ستستغرق على الأقل 3 سنوات، وسيكون عمري حينها قد ناهز الثلاثين. ولقد تقدم لي الكثيرون، ولم أعثر بينهم على الشخص المناسب، إما لعدم التوافق النفسي أو الثقافي، وأني أقدر في الرجل بشدة تدينه جنبًا إلى جنب مع تفتح العقل والحكمة، وللأسف لم ألتقِ حتى الآن بمن اجتمعت به هاتان الصفتان، وأظن أنني لا بد من أن أتزوج من شخص أحترمه؛ لأنني لدي تقدير عالٍ لذاتي ومواهبي، وأفضل أن يكون شريك حياتي معينًا لي على الرقي لا الهبوط.
ونهاية أسائل نفسي: إذا ما كان شيئًا صحيحًا شرعيًّا أن أسافر للخارج وأن أقيم هناك وحدي؟ علمًا بأني لا أريد أن أبني حياتي على معصية لله.
ببساطة سؤالي هو: أأضيع فرصة السفر لأجل شخص قد لا يأتي أبدًا، أم أنتظر لعل الله يرزقني به؟
خاصة وقد حرصت على تحري عدم إغضاب الله، وإن كنت سأنتظر، أليس هذا نوعا من ضعف اليقين، فالله يستطيع أن يأتيني برزقي أينما كنت؟.
1/02/2007
رد المستشار
أختي الكريمة، مرحبا بك، ونشكرك على ثقتك بنا، ونحييك على حرصك على تقوى الله عز وجل، وتحرِّيك رضاه سبحانه وتعالى، فتقبل الله منا ومنك صالح العمل، وبعد...
فاسمحي لي أولاً أن أعرب عن سعادتي الجمَّة بوجود من هُن أمثالك من الفتيات المسلمات، اللاتي جمعن التفوق العلمي إلى جانب تدينهن وحرصهن على طاعة الله سبحانه، فضربن بذلك مُثلاً عليا لأخواتهن من فتيات الإسلام، وأثبتن للعالم كله أن المرأة المسلمة لا يعيقها تدينها والتزامها بأوامر ربها أبدًا عن إثبات ذاتها، والتفوق والتقدم في شتى مجالات الحياة. فوفقك الله وزادك من خيره وفضله على كل المستويات، وثبتك على الحق.
وأقدِّر لك بالطبع أختي الكريمة حرصك على البحث عن الزوج المناسب والمكافئ لك من الناحية النفسية والثقافية والاجتماعية، وعدم التسرع في قبول أي متقدم للزواج منك، على أن تكون المواصفات التي تطلبينها في زوج المستقبل واقعية وسهلة التحقق والاجتماع في شخص واحد، أو على الأقل أن تكون لديك أولويات مرتبة في الحكم على المتقدمين لك، بحيث أنك قد تتغاضين عن أشياء ثانوية لحساب أخرى لا يجوز التنازل عنها مطلقًا، فمن الصعب بل أظنه من المستحيل أن تجتمع كل الصفات المطلوبة في إنسان، فالكمال لله وحده، فسددي وقاربي، واستخيري واستشيري، والزمي الدعاء أن يرزقك الله الزوج الصالح.
وأظنك أختي –كما أشرت في نهاية رسالتك- لست بحاجة إلى أن أذكِّرك أن الزواج هو رزق من الله عز وجل، ومقدَّر من قِبَل الرحمن جلا وعلا، وما علينا إلا السعي في أسبابه، فاسأل الله لك رزقًا حسنا تقرُّ به عينك ويطمئن له قلبك.
وما دام أن الزواج (رزق مقدَّر)، فهو يأتي الإنسان في أي مكان وفي أية ساعة، فالرزق يطارد صاحبه، وهو دائما يجده ولا يفقده، وعليه فليس من المقبول أن يعتقد الإنسان أن الرزق مرتبط بمكثه في بلد ما أو مكان ما، وأن عليه أن يعطل مصالحه ويكمن في مكان ما انتظارًا لهذا الرزق.
إذن فليس زواجك أختاه مرتبطًا بسفر ولا بإقامة، فرزقك سيأتيك في أي مكان، ولا ينبغي أن يؤرقك هذا الهاجس، ويمنعك من القيام ببعض ما ترين فيه مصلحة شرعية، وإن كنت سأتحدث معك بعد قليل عن حكم سفرك وحدك للدراسة، ولكني أحببت أن أبين أن هذا الأمر منفصل عن ذاك.
نأتي الآن إلى حكم سفرك للخارج وحدك بدون محرم لاستكمال دراستك، فأقول لك الآتي، بناء على أقوال العلماء في هذه المسألة:
إن الأصل ألا تسافر المرأة وحدها، بل يجب أن تكون في صحبة محرم لها، والدليل على ذلك ما رواه البخاري بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم". وما رواه الشيخان بإسنادهما عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها محرم". وهذا يشمل كل أنواع السفر، سواء كان لدراسة أو لزيارة أو لحج أو تجارة، وغيرها.
والحكمة في ذلك هي الحفاظ على المرأة وحمايتها من ذئاب البشر، وذوي الأغراض الخبيثة، وصيانة سمعتها من القيل والقال، خاصة في الأماكن والأزمان التي لا يؤتمن فيها على الأعراض.
وبعض العلماء يرى جواز سفر المرأة بدون محرم، إذا كانت في جمع من الرجال المأتمنين أو النسوة الثقات، أو كان الطريق آمنا، واستدلوا بعدد من الأحاديث لا يتسع المقام لذكرها كلها، ولكن نذكر منها ما رواه البخاري أن عمر رضي الله عنه أذِن لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حجة حجها، فبعث معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف. فقد اتفق عمر وعثمان وعبد الرحمن ونساء النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولم ينكر غيرهم من الصحابة عليهم في ذلك، وهذا يعتبر إجماعًا.
ويقول فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي معلقًا على هذه المسألة: "إن السفر في عصرنا لم يعد كالسفر في الأزمنة الماضية محفوفًا بالمخاطر لما فيه من اجتياز الفلوات، والتعرض للصوص وقطاع الطرق وغيرهم. بل أصبح السفر بواسطة أدوات نقل تجمع العدد الكثير من الناس في العادة، كالبواخر والطائرات، والسيارات الكبيرة، أو الصغيرة التي تخرج في قوافل. وهذا يجعل الثقة موفورة، ويطرد من الأنفس الخوف على المرأة؛ لأنها لن تكون وحدها في موطن من المواطن، ولهذا لا حرج أن تسافر مع توافر هذا الجو الذي يوحي بكل اطمئنان وأمان".
هذا من ناحية طريق السفر، أما من ناحية الإقامة، فقد ورد في فتوى للمجلس الأوربي للبحوث والإفتاء ما يلي: "إذا كان السفر يتطلب مبيتًا في الطريق كالفنادق، أو أن السفر للقيام بعمل معين يتطلب إقامة مدة معينة، فالأصل في هذه الحالة أن تسافر المرأة مع محرم لها، أو تقيم المدة المطلوبة مع أسرة مسلمة في ذلك البلد، سدًّا لذريعة الفتنة أو الأذى الذي قد يحصل للمرأة".
ويقول فضيلة المستشار فيصل مولوي، نائب رئيس المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث: "إن سفر البنت لمتابعة الدراسة جائز بشرط أن تكون الإقامة في البلد الذي تسافر إليه منضبطة بالقيود الشرعية، وهي على التتابع: الإقامة مع محرم لها إن تيسّر ذلك، وإلا فالإقامة مع امرأة مسلمة صالحة أو نسوة ثقات، وإلا فلا بأس من الإقامة في سكن خاص بالطالبات".
بعد هذا البيان، أدعوك أختي للنظر والتفكر، ويبقى القرار لك في السفر من عدمه، بناء على ما ذكره العلماء من شروط، فإن تحققت فبها ونعمت، وإن انتفت، فإني أشير عليك - اتقاءً لله عز وجل وحفاظًا على دينك وعرضك – أن تستكملي دراستك في بلدك، ولن تعدمي الخير والفضل والمثوبة من الله عز وجل، القائل -ومن أصدق منه قيلاً-: (ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا . ويَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ومَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا).
اسأل الله عز وجل أن يثبت فؤادك، وأن يربط على قلبك، وأن يرزقك سعادة الدنيا والآخرة، وتابعينا بأخبارك.