المواطنة والعلاقة بغير المسلمين9
الحب غير الولاء
إن الحب، سواء في العلاقة بين الزوجين، أو العلاقة بين صديقين، شيء مختلف عن الولاء:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ{51}﴾ [المائدة: 51]. والولاء يكون بين المؤمنين:
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ{72} وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ{73}﴾ [الأنفال: 72-73].
الولاء أكثر من مجرد الصداقة والمودة، إنه تحالف وارتباط قد يبلغ حد الالتزام القانوني، فقد كان المؤمنون في المدينة المنورة بعضهم أولياء بعض وكان النبي وليهم جميعهم والواضح في هذه الآيات نفي علاقة الولاء بين أمة المؤمنين في المدينة المنورة والمؤمنين الذين لم يهاجروا وينضموا إلى دولة الإسلام، إنما بقوا في أرضهم ومساكنهم، مع أن المؤمنين إخوة، وبينهم المودة والرحمة على اختلاف قبائلهم وأوطانهم.
إذن من لم يهاجر من المؤمنين إلى المدينة المنورة ويلحق بأمة المؤمنين ليس له حق بولايتهم حتى يهاجر، لكن هذا لا يعني أنه لا حق له في محبتهم وصداقتهم، وهذه الآية دليل على أن الحب والصداقة ليسا هما الموالاة المحرمة علينا إلا مع المؤمنين، أي يمكنك أن تصادق شخصاً كافراً غير محارب للمسلمين وتحبه دون أن تواليه، لأنه لا يعقل أن يحرم علينا ربنا أن نحب أخاً لنا مؤمناً لأنه لم يلحق بنا في دولتنا إما لأن ظروفه لا تسمح له أو لأنه متمسك بموطنه وعشيرته ولا يحب أن يفارقه. للمؤمن على المؤمن حق أن يحب له من الخير ما يحب لنفسه، وأن يحبه في الله ويكون معه في أعلى درجات اللطف، لكن لا يواليه ما دام ممتنعاً عن الهجرة، أي لم ينضم إلى دولتنا ويحمل جنسيتنا، وهذا يرينا أن علينا أن نحب جميع المؤمنين في الأرض ونراهم إخوة لنا، لكن لا نواليهم ما لم يكونوا أعضاء في دولتنا التي نحن مواطنون فيها.
وهذه آية أخرى يتضح لنا فيها اختلاف الولاء عن المودة والتحابب، قال تعالى عن الذي قُتل مظلوماً:
﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً{33}﴾ [الإسراء: 33].
فولي القتيل له صلاحية أن يصر على القصاص وقتل القاتل أو أن يعفو عن القاتل ويتنازل عن دم القتيل أو يرضى بالدية دون الثأر.
﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ{55} وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ{56} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ{57} وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ{58} قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ{59}﴾ [المائدة: 55-59].
أي يشكل المتوالون حزباً واحداً يربط الولاء بين أعضائه، ويعطيهم حقوقاً على بعضهم بعضاً ويفرض عليهم واجبات تجاه بعضهم بعضاً، ومع أن المواطنين في دولة واحدة تربطهم ببعضهم بعضاً علاقة الجنسية المشتركة والوطن الواحد، إلا أن علاقة الولاء مختلفة، لأنها لا تكون إلا بين المؤمنين، بينما المواطنة رابطة تتجاوز الدين والعرق والجنس.
البنت البكر الصغيرة بالعمر لا تتزوج إلا بمن يرضاه وليها ويعقد هو قرانها عليه:
«الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ، وَإِذْنُهَا سُكُوتُهَا، وحدثنا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حدثنا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ: الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا، وَرُبَّمَا قَالَ: وَصَمْتُهَا إِقْرَارُهَا.» (صحيح مسلم).
وهذا يعني أن الولاء علاقة مختلفة عن مجرد المحبة والمودة، إذ وليها محدد لا يكون غيره ولياً لها مهما كانت تحبه ويحبها.
المـودة مــع الكـافــر
قال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ{8} إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ{9}﴾ [الممتحنة: 8-9].
الآية الأولى ترفع الحرج عن المؤمنين فتكون علاقتهم بالكفار الذين لم يقاتلوهم بسبب الدين ولم يخرجوهم من ديارهم علاقة طيبة سماها ربنا البِرّ، وهو قمة الإحسان في المعاملة لذلك أمرنا ببر الوالدين، والأغلب في البر أن يكون مصحوباً بالودّ، بينما الآية الثانية تحرم على المؤمنين موالاة من يقاتلون المؤمنين بسبب إيمانهم، أو يخرجونهم من ديارهم أو يعينون غيرهم على إخراجهم، حتى لو كان الإخراج لسبب آخر غير الدين، بل نحن منهيون عن أن تكون بيننا وبينهم مودة على الإطلاق، لأنهم بعدوانهم على المؤمنين لإيمانهم إنما هم يحادّون الله ورسوله، أي يغاضبونه ويعادونه ويخالفونه:
﴿لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{22}﴾ [المجادلة: 22].
كما حذرنا تعالى من مُوادّة الكفار المحاربين لنا لإيماننا، فهم لنا عدو يتربص بنا الدوائر وليس من الحكمة في شيء أن تحب عدوك الذي يتحين الفرصة للانقضاض عليك:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ{1} إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ{2}﴾ [الممتحنة: 1-2].
أي علينا أن نتخذ من يعادينا في الدين عدواً، فلا نحبه ولا نصادقه ومن باب أولى لا نواليه. والخلاصة أن المودة مع الكافر المحارب لله والرسول والذي عداوته بيّنة هي محرّمة ومن باب أولى موالاته والتحزب معه والتبعية له، لا لأنه كافر، بل لأنه عدو لن يضيع فرصة لإيذاء المؤمنين، والمودة معه تسهل له أن يضرنا. ثم إن المودة تدفع الإنسان إلى أن يتشبه بالمحبوب، والله لا يرضى لنا أن نقتبس أية أخلاق من كافر محارب لدين الله، وبالمقابل إن المودة تجعل غير المؤمن الذي ليس عنده ما يدفعه إلى الحقد على الإسلام والمسلمين ومحاربتهما، يميل وهو يشعر أو لا يشعر إلى التشبه بالمؤمنين ثم الانضمام إليهم، ولهذا شرع ربنا أن نخصص جزءاً من مال الزكاة نتألف به قلوب بعض الكفار من أجل اجتذابهم للإسلام.
ومخطئ من يظن أنه يكفي أن نبين للكفار محاسن الإسلام كي ينجذبوا إليه ويدخلوا فيه. قد يكفي هذا لهداية فئة قليلة من الذين وهبهم الله الحكمة والتعقل، لأن الغالبية العظمى من الناس تدخل في الأديان وتؤمن بها لأسباب وجدانية تجعلهم ينظرون إلى الحق الذي فيها فلا ينكرونه، بل يأخذون به وينضمون إلى المؤمنين به. ولا يمكن أن نجتذب الناس للإسلام إن كنا نكرههم ونحقد عليهم، نعم نحن لا نحب الضلال الذي هم فيه، ولا نحب منهم من يعادينا ويعادي ديننا، لكننا نحب الخير لجميع البشر مؤمنهم وكافرهم، ونحرص على إنقاذهم من النار لأننا نحبهم، لا لأننا نكرههم. إن كنت أكرهك ما الذي يجعلني أحرص عليك وأجتهد في محاولتي هدايتك؟ ما دمت أكرهك فلتذهب إلى الجحيم. نحن بشر وتحكمنا عواطفنا وأفكارنا ولا يمكن أن نجمع في قلوبنا الكراهية والعداوة للكفار مع الرغبة الحقيقية في هدايتهم، لأن ما خرج من القلب هو الذي يدخل إلى القلب..
ويتبع>>>: المواطنة والعلاقة بغير المسلمين11
واقرأ أيضًا:
كرامة المريض النفسي ــ محاربة الوصمة / رحلتي إلى علم النفس الإسلامي1
