المواطنة والعلاقة بغير المسلمين8
بحكم عملي كطبيب نفسي وبخاصة عندما كنت أعمل في أبو ظبي، استشارتني نساء من أديان وأعراق وثقافات مختلفة، وأحيانا تكون الخيانة الزوجية أو التعلق العاطفي بغير الزوج هي المشكلة التي من أجلها أتت هذه المرأة إلى الطبيب النفسي. كلنا يتوقع أن تكون المرأة المسلمة التقية وفية لزوجها لا تخونه لأن تقواها تمنعها. هذا صحيح لكن وجدت كل النساء من كل الأديان والشعوب عندهن الميل الفطري نفسه للإخلاص للزوج أو الحبيب، وجدت ذلك عند المسلمات وعند المسيحيات ووجدته عند البوذيات والهندوسيات والكونفوشيوسيات، وعند الشرقيات والأوربيات، وعند المؤمنات والملحدات. هي فطرة المرأة لا تتغير، الأصل فيها أن تخلص للرجل الذي أحبته فلا يدخل قلبها رجل آخر مادام الأول فيه.
وهكذا حب الأوطان فطرة عند كل الناس، طالما هم أناس أسوياء وغير فاسدين منحرفين. كل الآباء والأمهات يحبون أولادهم ويبذلون ما يستطيعون من أجل سلامتهم. صحيح أنني أحتسب عند الله ما أنفقه على أولادي، لكن المسيحي أو الهندوسي ليس أقل مني عطاء لأولاده. كل مولود يولد على الفطرة، والبشر كلهم يشتركون بالتكوين النفسي ذاته والميول ذاتها، وما علينا إلا أن نشاهد أفلاماً من أقوام ولغات وأديان مختلفة لنرى كيف أن النفس البشرية واحدة. لو شعر أبناء الأقليات في سورية أن المسلمين السنة يشاركونهم الوطن، ويعتبرونهم مساوين لهم في جميع الحقوق والواجبات، واقتنعوا أن ذلك حقيقي وليس تظاهراً، فإنهم لن يقلوا إخلاصاً وعطاء لسورية عن غيرهم أبداً.
لكن هل نصبح مواطنين سوريين وننسى أننا مسلمون نشكل بكافة لغاتنا أو ألواننا أمة واحدة كلنا ننتمي إليها؟ هل يمكن أن نكون مواطنين مع غير المسلمين دون أن يكون ذلك على حساب ديننا؟ وهل يحل لنا أن نحس برابطة بيننا وبين كفار لا يؤمنون بديننا؟
يفصّل ربنا في سورة النساء ما يتوجب على المؤمن إن قتل مؤمنا خطأً، فيقول:
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾ [النساء: 92].
فمع أن المؤمن المقتول خطأ مؤمن فإن رب العالمين نسبه إلى القوم العدو للمؤمنين، الذين في الغالب ليسوا مؤمنين، لذلك قال من قوم عدو لكم وهو مؤمن، بهذا التأكيد على إيمان المقتول يؤكد أن قومه قد يكونون كافرين وقد يكونون مؤمنين، لأن المؤمنين يكونون أعداء للمؤمنين أحياناً، ومع أن المقتول مؤمن فإنه يعامل معاملة قومه مؤمنين كانوا أو كافرين، لا دية للمقتول منهم رغم أن المقتول تربطه بالمؤمنين أخوة الإيمان ﴿...فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ...﴾ أي هو واحد من أمة المؤمنين، لكنه من قوم عدو فلا دية له.
ومن ناحية أخرى لم يُذكر رسول من الرسل في القرآن إلا وتحدثت عنه بعض الآيات على أنه واحد من قوم، هم قومه، وهو منهم، بل كثيراً ما يقال عنهم إخوته أو إخوانه رغم كفرهم واستحقاقهم العذاب في الدنيا قبل الآخرة. اقرؤوا هذه الآيات عن نوح :
﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ{59} قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ{60} قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ{61}﴾ [الأعراف: 59-61].
خاطب ربنا الأنبياء بأنهم أمة واحدة تجمعها العقيدة والرسالة رغم تباعد أزمانهم وأماكنهم وأنسابهم. قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ{51} وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ{52}﴾ [المؤمنون: 51-52].
أي كان كل رسول ينتمي إلى أمة تربطها أخوة العقيدة هي أمة الرسل، وكان في الوقت نفسه فرداً من قوم، هم قومه وهو منهم، وحتى لوط الذي بعث في غير قومه الأصليين قال تعالى عنهم وقد كانوا فاسقين «إخوان لوط»: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ{12} وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ{13}﴾ [ق: 12-13].
وما أكثر ما يخاطب الرسل أقوامهم قائلين: "يا قومي" يتم تخفيفها في القرآن دون أن يتغير معاناها، فتقرأ "يا قومِ". وهذا يعني أنني من الممكن أن أكون من أمة الإسلام وفي الوقت نفسه أنتمي لقومي السوريين. لا يتعارض شعوري بالأخوة والوحدة مع كل مسلم من أي عرق أو لون أو لغة، مع شعوري أنني واحد من قوم أتشارك معهم الوطن ونتعاون جميعنا من أجل أمنه ورفاهيته. هل يتعارض ولائي لأسرتي الصغيرة أي زوجتي وأولادي مع انتمائي لقريتي أو قبيلتي؟ وقد يكون من أفراد أسرتي من هو كافر، أليست المسيحية التي أباح الله لي أن أتزوجها إن كانت محصنة، كافرة؟ أما قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ{72} لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ{73}﴾ [المائدة: 72-73].
إذن يمكنني أن أكوِّن أنا المسلم المؤمن مع امرأة كافرة بلا جدال - لكنها من أهل الكتاب - أسرة متحابة تكون لها ذرية، أخوالهم كفار، وأعمامهم مسلمون.
أمة متحابة متماسكة رغـــم الاختلاف
هنالك من المسلمين من يظن أنه محرم علينا أن نحب غير المؤمنين، بل حتى أن نبدأهم بالسلام، وأن نهنئهم في أعيادهم. وهم بكل نية طيبة يريدون الاستجابة لما أمرنا به ربنا في هذه الآية:
﴿لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ{22}﴾ [المجادلة: 22].
لكن ربنا حذر المؤمنين من كفار هم يهود المدينة، كانوا لهم محبين بينما أولئك الكفار يضمرون للمؤمنين أشد العداوة، فقال:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ{118} هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ{119} إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ{120}﴾ [آل عمران: 118-120].
والله هنا يثبت أن المؤمنين المخاطبين وكانوا صحابة رسول الله ﷺ كانوا يحبون هؤلاء الكفار من اليهود، ولا يدرون أن الآخرين يكرهونهم، وكان المؤمنون يؤمنون بالقرآن وبالتوراة التي يؤمن بها هؤلاء الحاقدون، بينما هم لا يؤمنون بالقرآن. ومع ذلك لم يلمهم الله على حبهم لأولئك، إنما بين للصحابة الكرام أن هؤلاء اليهود ليسوا جديرين بحبهم، لأنه كان حباً من طرف واحد تقابله عداوة شديدة وكراهية وحقد من الطرف الآخر.
بالمقابل شهد الله للنصارى أنهم أقرب الناس مودة للذين آمنوا، لأن منهم رهباناً وقسيسين عبّاداً لله، ولأنهم لا يستكبرون كما يستكبر اليهود. قال تعالى:
﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ{82} وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ{83} وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ{84} فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ{85}﴾ [المائدة: 82-85].
بينما كان يهود المدينة يخادعون الصحابة ويدعون أنهم مؤمنون بأن محمداً رسول الله، وأن القرآن وحي من الله، وإن كانوا هم باقين على دينهم، أي يؤمنون بمحمد ﷺ وبالقرآن كما نؤمن نحن برسلهم وكتبهم دون أن نتحول إلى دينهم. بينما النصارى هم الذين يمكن أن تثقوا بحبهم لكم، لأن منهم رهباناً متعبدين، ولأنهم لا يستكبرون على الناس، ولا على الحق، ويشهدون أن ما جاء به محمد ﷺ حق من ربهم.
ويتبع>>>: المواطنة والعلاقة بغير المسلمين10
واقرأ أيضًا:
كرامة المريض النفسي ــ محاربة الوصمة / رحلتي إلى علم النفس الإسلامي1