المواطنة والعلاقة بغير المسلمين3
والحكمة الثانية في قوله تعالى: ﴿...حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ هي في قوله «صَاغِرُونَ»... وهي كلمة تصدم من يعرف القرآن جيداً، حيث تسوده مشاعر الرحمة وتكريم الإنسان بغض النظر عن دينه، ويحارب أي استكبار لدى المؤمنين على غيرهم، والله يقول عندما يدعوا الناس للإيمان: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً{1}﴾ [النساء:1].
أي يلفت أنظار المؤمنين وغير المؤمنين أنهم إخوة انحدروا من نفس واحدة هي آدم التي خلقها الله وخلق منها زوجها حواء وبث منهما البشرية برجالها ونسائها، وعندما غضب موسى من الإسرائيلي الذي ورطه بقتل مصري دون تعمد ذات يوم، هاجمه الإسرائيلي الذي خاف منه أن يقتله قائلاً: ﴿فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ{19}﴾ [القصص: 19].
أي إن الرغبة في أن يكون جباراً في الأرض يقهر أهلها أمر ذميم وعلى النقيض من الإصلاح الذي يسعى إليه الصالحون من رسل ومؤمنين. كما لم تأت آية واحدة تبيح التكبر على الكفار ولا حديث شريف، إنما كان التكبر مذموماً دائماً دون تحديد دين من يقع التكبر عليه، لذا كلمة (صاغرون) كانت مقصودة لغاية نبيلة وهي إفهام المؤمنين أن الجزية بحد ذاتها ليست هي الهدف، إنما الهدف إخضاع الذين يرفضون الهداية ووضعهم في موضع الأذل والأصغر، وهذا ما فهمه ابن القيم كما تجدون في الفقرة التي استشهدت بها قبل قليل من كتابه أحكام أهل الذمة حيث بيّن أن للحاكم المسلم أن يسقط الخراج عن الذميين لكن ليس له أن يسقط الجزية عنهم: «وَلِلْإِمَامِ تَرْكُ الْخَرَاجِ وَإِسْقَاطُهُ عَنْ بَعْضِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، وَتَخْفِيفُهُ عَنْهُ بِحَسَبِ النَّظَرِ وَالْمَصْلَحَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي الْجِزْيَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْجِزْيَةَ الْمَقْصُودُ بِهَا إِذْلَالُ الْكَافِرِ وَصَغَارُهُ، وَهِيَ عِوَضٌ عَنْ حَقْنِ دَمِهِ وَلَمْ يُمَكِّنْهُ اللَّهُ مِنَ الْإِقَامَةِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا بِالْجِزْيَةِ إِعْزَازًا لِلْإِسْلَامِ وَإِذْلَالًا لِلْكُفْرِ».
ولكم أن تتخيلوا مقدار الاستفزاز الذي أحدثته كلمة «صاغرون» في نفوس أهل الذمة، وكيف أنها دفعت كثيرين منهم إلى الإيمان والتحول إلى الإسلام تحولاً صادقاً. لقد شكلت مثل الجزية نفسها حافزاً ضئيلاً، إذ ليس كثيراً على المؤمن بدينه أن يتحمل هذه الإهانة الصغيرة في سبيل دينه الذي يؤمن به، لذا لم تكن نفوس الذين استفزتهم هذه الكلمة لتقر بأنها ستغير دينها بسبب كلمة، وبالتالي لم تكن نفوسهم تتقبل أن تنافق وتتظاهر بالإسلام لمجرد أن يخرجوا من الوصف بالصغار أمام أمة فاتحة غالبة، إنما كان المقبول من هذه النفوس هو أن تغير منظورها الذي تنظر منه إلى الإسلام، فترى الحق الذي فيه، وتؤمن به وتتخلص دفعة واحدة من الجزية ومن الصغار، وبذلك كان في كلمة «صاغرون» خير عظيم للذميين وتحقيق لهدف الإسلام الأول وهو هداية الناس إلى الدين الحق.
بعض إخوتنا المسيحيين وبخاصة العرب يتهمون الإسلام بالتمييز العنصري الذي كان بادياً في الجزية وفي كلمة «صَاغِرُونَ» ويعتبرون المسلمين الحاليين غزاة ويحلمون بتحرير البلاد منهم. هم لا ينتبهون إلى أن الإسلام فتح الباب أمام الجميع لينتقلوا من حالة الذمي إلى حالة الغالب والمنتصر بمجرد دخوله في الإسلام، بينما العنصريون ما كانوا يسمحون للأسود الذي تنصر وصار أخوهم في الدين أن يدخل كنائسهم. وينسى هؤلاء أن الذين يعتبرونهم غزاة ويحلمون أن يحرروا البلاد منهم هم مثلهم أصحاب البلاد الأصليين لكنهم اهتدوا إلى الحق فأسلموا ولهم حق أصلي في هذه البلاد لا يقل عن حق المسيحيين أو أتباع الديانات الأخرى من سكان هذه البلاد الأصليين. لم يكن وضع المغلوب الصاغر لعنة على الذمي لا تنفك، إذ كان يستطيع تغيير هذا الوضع إلى وضع المواطن من الدرجة الأولى بمجرد أن يشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
علينا أن نذكر أن الذمي تسقط عنه الجزية بمجرد إسلامه لكن أرضه التي يزرعها ويدفع خراجها تبقى كما هي ملكاً لأمة المسلمين وعليه دفع خراجها حتى لو كان مسلماً، وهذا يؤكد أن الشعوب المغلوبة كانت تخسر ملكية أرضها كلها: الأرض التي تسمى أملاكاً عامة أي التي هي ملك الدولة أصلاً والأرض المملوكة للأفراد، وهذا مختلف عما هو ممارس في عصرنا في حال احتلال دولة لدولة أخرى. ومرة أخرى أؤكد أن الإسلام لم يأت بهذه التشريعات، بل كانت سائدة ومتعارف عليها عند البشرية قبل الإسلام وجاء الإسلام وأذن للمسلمين أن ينتفعوا بها.
نهــاية الغـلبة
لقد جاء الاستعمار الأوربي وأصبحنا أمماً مغلوبة بقوة السلاح، لكننا كنا محظوظين أكثر من سكان البلاد التي فتحها أجدادنا، إذ لم تنتقل ملكية أراضينا للمستعمرين، بل اقتصر حق الغزاة على التصرف بالأراضي العامة التي ليس لها مالك محدد، أما الأفراد فقد بقيت أراضيهم ملكاً لهم، وهذا لا يعني أن الاستعمار الأوربي لم ينهب ثرواتنا ويقسم بلداننا وينشئ دولاً جديدة لا تقوم على أساس الجغرافية الطبيعية والبشرية، بل حدودها خطوط مستقيمة رسموها بالمسطرة. المهم فقدنا نحن المسلمين امتيازاتنا كأمة غالبة، وبالوقت ذاته تحرر المسيحيون واليهود وغيرهم من الكفار الذين يعيشون بيننا من كونهم ذميين عليهم الجزية وقيود أخرى بموجب المعاهدات التي كانت بين أجدادهم المغلوبين وأجدادنا الفاتحين المنتصرين.
وضع جديد محزن للمسلمين في بلادنا لا شك، لكن هكذا هي الدنيا تؤخذ غلاباً. فكما خسر سكان هذه البلاد الكثير عندما تغلب عليهم المسلمون، فقد خسرنا نحن امتيازاتنا لما تغلب علينا الأوربيون. يمكننا أن نقول إن فقدنا لهذه الامتيازات غير شرعي، لكن كونه غير شرعي لا يعني إبطال ما نتج عنه، وأشبّه هذا الأمر بزواج تم بالإكراه فهو بالتأكيد غير شرعي، لكن للأولاد المولودين فيه حقهم بالنسب والميراث كما لو كان الزواج شرعياً تماماً.
نحن الآن في جميع البلاد الإسلامية مواطنون على قدم المساواة مع المسيحيين واليهود وغيرهم من أديان، لأن جوهر المواطنة هو التساوي في الحقوق والواجبات بغض النظر عن الدين أو اللون أو القومية أو الجنس أو العمر.
أزمة ثـقة
يتخوف الإسلاميون من المواطنة التي تعطي المسيحي والملحد وأبناء الطوائف والأديان الأخرى الحق في تبوء وظائف حساسة في البلاد لأنهم يخشون منهم الخيانة. ترجع القضية كما أعتقد لما ورد عن عمر بن الخطاب من شعوره بالريبة من غير المسلمين ورفضه أن يتولوا أية وظائف حساسة في دولة المسلمين، فقد روى ابن تيمية وصحح، عن أبي موسَى الأشعري أنه قال: قلتُ لعمرَ: إنَّ لي كاتبًا نصرانيًّا قال: ما لكَ قاتلَكَ اللهُ، أما سمِعتَ اللهَ تعالَى يقولُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ{51}﴾ [المائدة: 51]. ألا اتَّخذتَ حنيفيًّا؟ قال: قلتُ: يا أميرَ المؤمنينَ لي كتابتُهُ وله دِينهُ، قال: «لا أُكرِمُهم إذ أهانَهُم اللهُ، ولا أُعِزُّهم إذ أذلَّهُم اللهُ، ولا أُدْنيهِم إذ أقصاهُم اللهُ».
وقد وردت روايات مختلفة لهذه القصة في كتب السيرة يصر فيها من يجادل عمر بن الخطاب على ضرورة الاستعانة بالكاتب النصراني، فيحسم عمر الموضوع بقوله: «مات النصراني والسلام»، أي افترض أنه مات، ألن تتدبر الأمر من بعده؟ إذن تدبر الأمر من دونه الآن. قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (28/ 643): «فَقَدْ كَتَبَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَقُولُ: إنَّ بِالشَّامِ كَاتِبًا نَصْرَانِيًّا لَا يَقُومُ خَرَاجُ الشَّامِ إلَّا بِهِ. فَكَتَبَ إلَيْهِ: لَا تَسْتَعْمِلْهُ. فَكَتَبَ: إنَّهُ لَا غِنَى بِنَا عَنْهُ. فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ: لَا تَسْتَعْمِلْهُ. فَكَتَبَ إلَيْهِ: إذَا لَمْ نُوَلِّهْ ضَاعَ الْمَالُ. فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ : مَاتَ النَّصْرَانِيُّ وَالسَّلَامُ.»
ومروي عن عمر مواقف عديدة فيها هذا التوجس من رعاياه غير المسلمين.
ويتبع>>>: المواطنة والعلاقة بغير المسلمين5
واقرأ أيضًا:
كرامة المريض النفسي ــ محاربة الوصمة / رحلتي إلى علم النفس الإسلامي1