المواطنة والعلاقة بغير المسلمين2
تصحيح التصورات
يمكنكم أن تكتبوا في غوغل كلمة Tribute التي تعني الجزية بالإنكليزية لتروا كيف أنها كانت معروفة وشائعة عند الأمم القديمة. أنا لا أحاول أن أبرىء الإسلام من الجزية فقد ذكرت صريحة في القرآن الكريم، لكنني أريد أن أبين للمسلمين قبل غيرهم أمرين بخصوص الجزية:
الأول: أنها ليست فريضة إسلامية لا نستطيع إلا أن نطلبها من أهل الكتاب لمجرد أنهم أهل الكتاب، ومخطئ من يعتقد أنها فريضة عليهم تقابل فريضة الزكاة على المسلمين. القرآن فرضها على كفار أهل الكتاب الذين يرفضون الإسلام ويختارون الحرب إذا ما تغلب عليهم المسلمون، ذكرها ليبين لنا أن لأهل الكتاب أن يختاروا بين الإسلام أو الجزية إذ لا يجوز إكراههم على الإسلام كما أكره مشركو العرب زمن الرسول ﷺ. وبالتالي ليس عدم أخذنا لها من المسيحيين الذين يشاركوننا أوطاننا في هذا العصر تنازلاً عن شيء أصيل في ديننا لأننا حالياً ضعفاء.
ومع أن الجزية ذكرت في القرآن الكريم متعلقة بأهل الكتاب فإنه صح عن النبي ﷺ أنه قال عن المجوس فيما رواه الشوكاني في السيل الجرار وصححه الألباني: «أنه قال في المجوسِ سُنّوا بهم سنةَ أهلِ الكتابِ». لذا قبلها صحابة رسول الله ﷺ من كل الشعوب التي فتحوا بلادها على اختلاف أديانها، وكلهم بمنظور الإسلام مشركون، لكن الصحابة لم يطبقوا عليهم حكم المشركين العرب الذين لم يُقبل منهم إلا الإسلام أو القتال والقتل للمقاتلين فيهم إن أظهر الله المسلمين عليهم. كان المشركون العرب استثناء من مبدأ «لا إكراه في الدين»، وكان أهل الكتاب مثالاً لهذا المبدأ الذي يسري على البشرية كلها ما عدا المشركين العرب في أرض العرب في عصر الرسالة.
والأمر الثاني الذي أريد أن أبينه أن الجزية كانت استحقاقاً للمسلمين نتيجة تغلبهم على الأمم الأخرى، وبقيت مضروبة عليها إلى أن جاء الاستعمار الأوربي، فجرد المسلمين من حقوق الغالب التي كانوا يتمتعون بها، حيث كان أهل البلاد الأصليين الذين لم يدخلوا في الإسلام ذميين عليهم بعض القيود وعليهم الجزية وعلى أراضيهم الصالحة للزراعة الخراج، وهو أجرة هذه الأرض التي انتقلت ملكيتها إلى المسلمين بمجرد دخولهم تلك البلاد بالقتال والغلبة، وكل أملاك الدولة المغلوبة تؤول للمسلمين. نعم بمجرد أن فتح المسلمون قطراً من الأقطار عَنْوَةً أي: بقوة السلاح، فإن كل أرض ذلك القطر أصبحت ملكاً للفاتحين ودولتهم. وبحسب الأعراف التي ورثها الإسلام كانت هذه الأراضي الزراعية توزع على المقاتلين الذين خاضوا معارك فتح هذا القطر على اعتبار أنها من الغنائم، لكن عمر بن الخطاب غيّر هذا العرف ولم يوزع أرض السواد في العراق، ومن بعدها أراضي كل البلاد التي فتحها المسلمون لم يوزعها على المقاتلين، بل اعتبرها فيئاً ملكيته للأمة الإسلامية كلها بكافة أجيالها، وأذن لأصحابها السابقين أن يزرعوها على أن يدفعوا نسبة مما تنتجه من خيرات كأجرة مستحقة عليهم لبيت مال المسلمين كانت تسمى الخَراج. تأملوا ما قاله ابن القيم في كتابه الرائع «أحكام أهل الذمة»: «وَلِلْإِمَامِ تَرْكُ الْخَرَاجِ وَإِسْقَاطُهُ عَنْ بَعْضِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، وَتَخْفِيفُهُ عَنْهُ بِحَسَبِ النَّظَرِ وَالْمَصْلَحَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي الْجِزْيَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْجِزْيَةَ الْمَقْصُودُ بِهَا إِذْلَالُ الْكَافِرِ وَصَغَارُهُ، وَهِيَ عِوَضٌ عَنْ حَقْنِ دَمِهِ وَلَمْ يُمَكِّنْهُ اللَّهُ مِنَ الْإِقَامَةِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا بِالْجِزْيَةِ إِعْزَازًا لِلْإِسْلَامِ وَإِذْلَالًا لِلْكُفْرِ. وَأَمَّا الْخَرَاجُ فَهُوَ أُجْرَةُ الْأَرْضِ وَحَقٌّ مِنْ حُقُوقِهَا، وَإِنَّمَا وُضِعَ بِالِاجْتِهَادِ فَإِسْقَاطُهُ كُلُّهُ بِمَنْزِلَةِ إِسْقَاطِ الْإِمَامِ أُجْرَةَ الدَّارِ وَالْحَانُوتِ عَنِ الْمُكْتَرِي».
وقد جاء في موطأ مالك ما يلي: «سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ إِمَامٍ قَبِلَ الْجِزْيَةَ مِنْ قَوْمٍ، فَكَانُوا يُعْطُونَهَا: أَرَأَيْتَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ أَتَكُونُ لَهُ أَرْضُهُ، أَوْ تَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ وَيَكُونُ لَهُمْ مَالُهُ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: ذلِكَ يَخْتَلِفُ، أَمَّا أَهْلُ الصُّلْحِ، فَإِنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ فَهُوَ أَحَقُّ بِأَرْضِهِ وَمَالِهِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْعَنْوَةِ الَّذِينَ أُخِذُوا عَنْوَةً فَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، فَإِنَّ أَرْضَهُ وَمَالَهُ لِلْمُسْلِمِينَ. لأَنَّ أَهْلَ الْعَنْوَةِ قَدْ غُلِبُوا عَلَى بِلاَدِهِمْ وَصَارَتْ فَيْئاً لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا أَهْلُ الصُّلْحِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ مَنَعُوا أَمْوَالَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ حَتَّى صَالَحُوا عَلَيْهَا، فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ إِلاَّ مَا صَالَحُوا عَلَيْهِ».
وهم صاغـرون
ويبدو لي أن الحكمة من قوله تعالى: ﴿...حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ{29}﴾ [التوبة: 29] هي شيئان:
الأول هو في أمره المسلمين أن يأخذوا الجزية ممن يرفض الدخول في الإسلام من غير مشركي العرب وقتها، وبذلك ما عاد للمسلمين أن يتنازلوا عن الجزية وقد أمرهم الله بأخذها، وهذا يضمن أن الجزية ستفرض على غير المسلمين من الأمم المغلوبة، مع اشتراط أنها لا تؤخذ إلا من الرجال الأصحاء القادرين مالياً، وتستثنى بعض الفئات منهم كالرهبان، أي كان مقصوداً أن يدفعها كل من يبقى خارج الإسلام من هذه الشعوب، في إطار من عدل الإسلام ورحمة المسلمين بغيرهم، وقد كانت الجزية مبلغاً صغيراً بمقاييس ذلك الزمان، والحكمة كامنة في فرضها وفي قلة مقدارها، لأنها بهذا الشكل تدفع من فُرضت عليه إلى الدخول في الإسلام، الذي كان يلغيها عنه ويضمه إلى أمة المسلمين الغالبة، مع أنه أحد المغلوبين، وقد بينت دراسات علم النفس أن الحافز الضئيل يجعل من يستجيبون له يغيرون قناعاتهم، لا أن يغيروا سلوكهم للحصول عليه مع بقاء قناعاتهم على حالها، بينما لو كان الحافز كبيراً ومغرياً فإنه يدفع الناس إلى النفاق والتظاهر بالتغيير كي يحصلوا على هذا الحافز وهم لا يجدون أي خجل أن يعترفوا لأنفسهم أنهم منافقون من أجل شيء ثمين، أما أن يعترفوا لأنفسهم أنهم نافقوا من أجل مبلغ ضئيل فيتعارض مع احترامهم لأنفسهم لذلك تقوم أنفسهم بتغيير منظورها للأمر، وتنظر لما يطلب منها من جوانبه الإيجابية، وتؤمن به إيماناً، كي تحصل على الحافز الضئيل دون خسارة احترام الذات.
لذا أعتقد أن الجزية التي كانت مبلغاً صغيراً سنوياً دفعت أعداداً كبيرة جداً ممن فرضت عليهم إلى الدخول في الإسلام إيماناً به، فكان فيها خير عظيم لهم، مع أن دخولهم في الإسلام كان يحرم المسلمين من الجزية التي كانوا يستوفونها منهم. وبرأيي أن من يقول إن الجزية فرضت على أهل الذمة لأنهم لم يكونوا يقاتلون مع المسلمين ولأن المسلمين كانوا مسؤولين عن حمايتهم مخطئ في هذا الفهم للجزية، مع أن المسلمين الذين فتحوا حمص وعاهدوا أهلها أن يحموهم وكان على أهلها أن يدفعوا الجزية، عندما شعر المسلمون أنهم لن يكونوا قادرين على حماية المدينة أمام جيش الروم العظيم الذي بلغهم أنه كان متجهاً إليهم أعادوا ما أخذوه من جزية من أهل حمص. كانت حماية الذميين مسؤولية المسلمين لا لأن الذميين كانوا غير راغبين في المشاركة في الجيش وفي حماية البلاد، بل لأن المسلمين ما كانوا يثقون بغير المسلمين، وما كانوا يقبلون كافراً في جيشهم الذي يقوم بالجهاد في سبيل الله وهو عبادة، ومن جهة أخرى كان الذميون أبناء أمم قهرها المسلمون وغنموا كل أرضها وحولوا أهلها الذين لم يدخلوا في الإسلام إلى نوع من المواطنين درجة ثانية، وأناس كهؤلاء لا يؤمن شرهم وعداؤهم ولا يصح إدخالهم في جيوش المسلمين. أي كان الذميون أبناء مستعمرات متمسكين بهويتهم وهوية أجدادهم المتجلية في دين آبائهم وأجدادهم ويغلب أنهم لن يكونوا سعداء بوضعهم كذميين في بلادهم، ولا شيء يضمن ولاءهم وإخلاصهم لو شاركوا في الجيش والقتال، لأنهم بشر ولا يتوقع منهم غير هذا.
ويتبع>>>: المواطنة والعلاقة بغير المسلمين4
واقرأ أيضًا:
كرامة المريض النفسي ــ محاربة الوصمة / رحلتي إلى علم النفس الإسلامي1