في كل مرة أُدعي فيها للحديث عن تجربتي الإدارية، أرى في عيون الحضور ذلك البريق المألوف، ينتظرون قصة نجاح أخرى تُضاف لمخزون القصص المصقولة التي تعودوا عليها في محاضرات من هذا النوع، تلك المحاضرات التي تبدأ دائماً بـ«عندما كنت صغيراً كان حلمي....» وتنتهي بـ«والآن أقف أمامكم كرجل حقق كل أحلامه»، وكأن الحياة عبارة عن خط مستقيم دائم الصعود، دون منعطفات أو حُفر أو إشارات للتوقف الاضطراري، لكنني اليوم أحمل لكم هدية مختلفة، قصة احتفظت بها طويلاً في صندوق الذكريات المؤلمة، قصة علمتني درسا عجزت كل الانتصارات عن تعليمه، درس... في الإخفاق الجميل!
بين عامي 2012 و2014، حملت أمانة رئاسة القسم الطبي في مستشفى الطب النفسي، وكنت قد عدت للتو من كندا، بعد رحلة تدريب في مستشفيات تعمل بانسيابية الموسيقى ودقة الساعات السويسرية، حيث كل شيء له مكانه ووقته ومعناه، كان كل شيء منطقياً لدرجة جعلتني أعتقد أن التطوير أمر بسيط، لا يحتاج سوى نقل النموذج وتطبيق النظام، هكذا بجرة قلم، وعندها ستتحول مستشفياتنا إلى نسخ ناجحة من تلك المستشفيات الكندية المتقدمة!
بحماس الشاب الذي يظن أن أفكاره ستغير العالم، بدأت رحلة الاستنساخ، فاستوردت السياسات والإجراءات، ونقلت النماذج والهياكل، وحاولت تطبيق كل تفصيلة مهما كانت صغيرة، وكأنني كنت أظن أن النجاح معادلة رياضية لا تتطلب أكثر من أن تأخذ نموذجاً ناجحاً وتطبقه حرفياً، لتحصل على النتائج نفسها، متناسياً أن كل مؤسسة لها تاريخها وظروفها، وأن النجاح الحقيقي يُبنى من الداخل، لا يُستورد من الخارج.
لم يتأخر الواقع في تلقيني درساً قاسياً، إذ اكتشفت أن مستشفانا ليس جزيرةً معزولة، بل خيطاً في نسيج معقد له تاريخه وثقافته وإيقاعه، فالموظفون رأوا في التغيير تهديداً لاستقرارهم وأسلوب عملهم الذي اعتادوا عليه، والمرضى وجدوا النظام الجديد متاهة زادت قلقهم بدلاً من تبسيط تجربتهم ومراجعاتهم، والأصعب أن كل قرار كان يحتاج إلى موافقات متعددة من جهات مختلفة، فما كان يُنجز في يوم واحد هناك، يستغرق شهوراً هنا، ويوماً بعد يوم، بدأت أبصر الحقيقة، فما رأيته في كندا لم يكن معجزة وُلدت بين ليلة وضحاها، بل ثمرة شجرة غُرست قبل عقود، وسُقيت بالصبر، ونمت في تربة مهيأة، وأدركت أنني كنت أحاول قطف ثمرة ناضجة دون أن أزرع بذرتها!
فشلت التجربة، نعم أقولها بصوت عالٍ، «فشلت»، ولكن يالروعة هذا الفشل، فقد علمني أن النماذج الناجحة هي مصدر إلهام لا قوالب للنسخ، وأن التطوير ينبع من الداخل ولا يُفرض من الخارج، وأن فهم الواقع بتعقيداته أهم من امتلاك الحلول الجاهزة، وأن الصبر في التغيير أحيانا هو حكمة وليس بطئاً أو تبريرا لواقع ندرك مشاكله.
اليوم، وأنا أسترجع تلك الأيام، أجدني أتأمل في أسباب ابتعادي طوال تلك السنوات عن الحديث عن تلك التجربة، فأواسي نفسي بأنني لست الوحيد الذي يتجنب الوقوف عند أخطائه، فنحن مجتمعات نبني أمجادنا على إخفاء إخفاقاتنا، ونصقل سيرنا الذاتية حتى تلمع وتسر الناظرين، فنعرض نجاحاتنا ونخفي فشلنا، وكأن الإخفاق وصمة عار لا مدرسة حياة.
ولكنني الآن أتساءل بألم، كم من الحكمة تم دفنها مع إخفاقاتنا المكتومة التي نواريها الثرى بسرعة إكرامنا لموتانا؟ وكم من شاب متحمس قد يسير نحو الهاوية نفسها التي وقعت فيها؛ لأنني لم أضع لغيري لافتات تحذير؟ وكم من الوقت قد يُهدر في تكرار الأخطاء لأن كلاً منا يحرص على إخفاء عثراته كما يخفي عورته، فيدفن فشله في قبر من الصمت، ويبني فوقه نصباً تذكارياً من النجاحات المزعومة، فنحرم الآخرين من دروس كانوا في أمس الحاجة إليها؟
ثقافة إخفاء الفشل يا أصدقائي لها ثمن باهظ، فقد أنتجت أجيالاً تظن أن النجاح يجب أن يكون هو القاعدة وأن الفشل هو الاستثناء المشين، فصار الشباب يخاف المحاولة لأن ثمن الفشل يبدو فادحاً والأخطاء قد لا تغتفر، لذلك قد يكون علينا أن ندشن عهداً جديداً نكتب فيه قصصنا الكاملة، بفصولها المشرقة والمظلمة، لنعلّم أبناءنا أن الفشل معلم قاسٍ لكنه أمين، وأن الخطأ ليس نهاية الطريق، بل ربما يكون بدايته الحقيقية.
إنني أدعوكم للاحتفاء بالإخفاق، ليس تمجيداً للفشل، بل كاعتراف شجاع بإنسانيتنا، وبأننا نتعلم بالتجربة والخطأ، وعليه، ولأبدأ بنفسي، فأنا اليوم أقف أمامكم بفخر لا كقائد ناجح، بل كإنسان تعلّم من فشله أكثر مما تعلّم من نجاحه، لأحكي قصتي وأضع حجراً في بناء ثقافة تحترم الحقيقة كاملة، وتفهم أن الحياة رحلة متقلبة، وأن جمالها في تعرجاتها، وحكمتها في منعطفاتها، وأن أعظم ما يمكن أن نتركه خلفنا ليس سجلاً من النجاحات، بل خريطة صادقة تحذّر من الحُفر... التي سقطنا فيها.
نقلا عن جريدة القبس
واقرأ أيضًا:
الأذكياء... الذين لا ينجحون! / الشهادات.. لا تمنح الحقيقة!
