لم أتوقع أن أُمنح بطاقة عضوية في نادي كبار السن بهذه السرعة، إذ لم يتم إرسال أي دعوة رسمية، ولا كتيب ترحيب، ولا حتى كوبون خصم على أدوية المفاصل، كل ما احتاجه الأمر كان نقطة تفتيش عادية، وضابط مرور شاب ينظر إليّ بابتسامة بريئة ويقول: «تفضل.. عمي»..
«عمي؟!»
تجمّد الزمن لحظة، التفت خلفي لعلّه يقصد شخصاً آخر، شخصاً يحمل عصا أو يمشي بخطوات متثاقلة، لكن لا..
الكلمة كانت موجهة إليّ مباشرة، أصابتني نفسياً في مقتل، أو كمثل رصاصة مطاطية لا تجرح الجسد لكنها تترك كدمة معنوية.. لا يشفيها مرهم!
كنت أظن أن شعري الأبيض مجرّد لمسة وقار أنيقة، كخيوط فضية تزين لوحة فنية جميلة، ولكن يبدو أن الضابط رآه إعلاناً رسمياً بخط عريض: «عضو جديد في النادي»، منذ تلك اللحظة، تبخرت كل ألقابي المكتسبة عبر السنين، لم أعد ذلك الطبيب الأنيق أو الكاتب المتأمل.. صرت مجرد «عمي» على قارعة الطريق، لقب يُمنح مجاناً دون استئذان، وغالباً.. دون موافقة!
لعل نادي كبار السن هو النادي الوحيد في العالم، الذي لا يحتاج منك طلب عضوية، ولا مقابلات شخصية، ولا رسوم اشتراك، ولا حتى نموذج تملؤه بخط يدك المرتجفة، فقط كلمة واحدة من شاب لا يعرف اسمك، وفجأة تجد نفسك عضواً مؤسساً دون أن تدري!
كل ما سبق قد يهون، لكن السخرية المريرة تعاظمت، عندما بدأت اكتشف أن عضويتي الجديدة قد وضعتني في مأزق اجتماعي محرج، فأنا الآن أخشى أن أنادي إحداهن بكلمة «خالتي»، التي طالما استخدمتها للاحترام والتوقير، لا لشيء سوى الخوف من أن يعترضن بنظرة حادة، تقول: «خالتك؟ يا رجل، أنت تبدو أكبر مني!»،
شعري الأبيض خانني وكشف سرّي، فصرت أحسب ألف حساب قبل أن أفتح فمي، والأدهى من ذلك أنني بت في حيرة من أمري عندما أريد تقبيل رأس أحد «الشياب» احتراماً كما تعودت في السابق، فأتوقف متردداً وأنا أفكر: «ماذا لو كان من عمري؟ أو حتى أصغر مني؟»، تخيل أن تمد يدك لتقبيل رأس رجل فيضحك ويقول: «يا أخي نحن دفعة واحدة!»
المدهش أن أعضاء النادي الجدد - ومنهم أنا - لا يشعرون في دواخلهم أنهم كبروا فعلاً، فالقلب ما زال يقفز عند سماع أغنية قديمة، ويضحك على النكات السخيفة نفسها، ويحلم بالسفر حول العالم كأنه في العشرين، لكن المرآة والناس يصرّان على تذكيرك بالحقيقة المرة: أنت عضو في النادي شئت أم أبيت!
أحياناً أحاول إقناع نفسي أن كلمة «عمي» هي ترقية وظيفية لم أسعَ إليها، أو منصب شرفي يُمنح تلقائياً بعد سنوات من الخدمة في الحياة، ولكن.. من قال إنني أريد هذه الترقية؟ من قرّر أن شعري الأبيض يعني أنني جاهز لاستقبال هذا اللقب الثقيل؟
الحقيقة أن نادي كبار السن ليس مجرد مكان، بل حالة ذهنية يفرضها عليك الآخرون قبل أن تكون مستعداً لها، تستيقظ يوماً لتكتشف أن العالم قرّر تصنيفك دون استئذان، وأن كل محاولاتك للهروب من التصنيف محكوم عليها بالفشل، فالشعر الأبيض لا يكذب، والتجاعيد شاهد لا يقبل الرشوة!
ربما عليّ أن أتصالح مع عضويتي الجديدة، أن أرتدي وسام «عمي» بكل فخر، وأن أستمتع بامتيازات النادي القليلة: ذلك الاحترام التلقائي والنظرات المتعاطفة من الشباب، حق الجلوس في المقاعد الأمامية وعدم الانتظار في الطوابير، أما «خالتي» وتقبيل الرؤوس فسأحتاج لدورة تدريبية في تقدير الأعمار أولاً.. قبل أن أقع في فخ آخر!
واقرأ أيضًا:
نهايات حزينة... لا بد منها! / العصبي... أطيبهم جميعاً!