طور العزة والغلبة
من الإشكاليات الكبرى التي تواجه الإسلاميين مفهومهم للمواطنة، وطبيعة علاقتهم بغير المسلمين أو العلمانيين أو المخالفين في المذهب، فيما لو قامت لهم دولة إسلامية كما يتمنون. أكثرنا لا يعرف من التاريخ الإسلامي إلا مظاهر العزة والغلبة والذمي الذي يدفع الجزية والخراج ولا يُقبل جندياً في الجيش الإسلامي ولا يعهد إليه بأي منصب مهم في الدولة. لقد مات النبي ﷺ وترك دولة إسلامية قوية إلى حد أن أمرهم الله أن ينذروا مشركي العرب أربعة أشهر بعدها يُقاتَلون أو يخرجون من أرض العرب ما لم يؤمنوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. ومع ذلك واجهت هذه الدولة مخاطر هائلة عندما استغل كثير من قبائل العرب التي لم يستقر الإسلام في قلوب أبنائها بعد، استغلوا غياب الرسول ﷺ عن المشهد بوفاته، فارتدوا عن الإسلام إلى شركهم القديم أو امتنعوا عن دفع الزكاة ومنهم من ادعى النبوة. جاهدهم المسلمون باستماتة وأخضعوهم من جديد للإسلام، وخلال سنوات قليلة ترسخ وجود الإسلام في أرض العرب واشتد عود دولته وأخذت تتوسع كي تنشر الإسلام في الشعوب المجاورة.
لقد أمر ربنا الرسول ﷺ والمؤمنين أن يكملوا مدة عهودهم مع أي قبيلة مشركة إلى مدتها إن كانت ملتزمة به، لكن لا يُجدد ولا يُمدد. أما الذين لم يكن بينهم وبين المسلمين عهد، فقد أمهلهم الله أربعة أشهر كي يدخلوا في الإسلام أو يرحلوا من أرض العرب وإلا يُقاتَلون وقد يُقتَلون. أما الكفار من أهل الكتاب فيُقاتَلون إن لم يدخلوا في الإسلام حتى يهزمهم المسلمون ويفرضوا عليهم الجزية. قال تعالى في سورة التوبة:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ{28} قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ{29}﴾ [التوبة: 28-29].
أي لو كان هنالك من أهل الكتاب مؤمنون بالله واليوم الآخر بلا شرك بالله، أي كانوا على الكلمة السواء التي أمرنا ربنا أن ندعوهم إليها فإن هؤلاء لا يُقاتَلون ولا تُفرض عليهم جزية.
﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ{64}﴾ [آل عمران: 64].
لم يكن القتال متوجباً إن قبل أهل الكتاب الإسلام أو قبلوا أن يعطوا الجزية دون حرب، بل بموجب صلح يكتب بينهم وبين المسلمين، ويكون من شروط هذا الصلح أن يكونوا صاغرين، أي خاضعين للمسلمين، ومن لوازم خضوعهم وصَغارهم هذا أنه يحق للمسلمين أن يبعثوا الدعاة إليهم وأن تكون الحرية كاملة لمن أراد أن يدخل في الإسلام منهم، فلا يؤذونه ولا حتى بكلمة. قال ابن منظور في لسان العرب عن جذر (ص غ ر): (الليث: يقال صَغَر فلان يصغر صغرا وصغارا، فهو صاغر إذا رضي بالضيم وأقر به. قال الله تعالى: حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون؛ أي أذلاء. والمصغوراء: الصغار. وقوله عز وجل: سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله؛ أي هم وإن كانوا أكابر في الدنيا فسيصيبهم صغار عند الله أي مذلة. وقال الشافعي رحمه الله في قوله عز وجل: عن يد وهم صاغرون؛ أي يجري عليهم حكم المسلمين. والصغار: مصدر الصغير في القدر. والصاغر: الراضي بالذل والضيم، والجمع صغرة. وقد صغر صغرا وصغرا وصغارا وصغارة، وأصغره: جعله صاغرا. وتصاغرت إليه نفسه: صغرت وتحاقرت ذلا ومهانة). وكانت الجزية تسقط على الفور إن دخل من يدفعها في الإسلام.
وقد استفاد أهل نجران الذين كانوا نصارى من التصالح مع المسلمين قبل أن تتوجه جيوشهم لغزوهم في بلادهم، إنما أرسل النجرانيون وفداً منهم تحاور مع النبي ﷺ الذي دعاهم للإسلام فلم يقبلوه وقبلوا الجزية والتبعية لدولة المسلمين، فأرسل النبي أحد صحابته عاملاً على نجران، ولم يفرض عليهم غير الجزية، أي بقيت ملكيتهم لأرضهم لهم، ولم تعتبر غنيمة للمسلمين يدفعون الخراج كراءً لها. قال ابن تيمية رحمه الله في الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح: "وأما النصارى فإن أهل نجران التي باليمن كانوا نصارى، فقدم عليه وفدهم ستون راكبا وناظرهم في مسجده، وأنزل الله فيهم صدر سورة آل عمران، ولما ظهرت حجته عليهم، وتبين لهم أنه رسول الله إليهم، أمره الله إن لم يجيبوه أن يدعوهم إلى المباهلة، فقال تعالى:
﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ{61}﴾ [آل عمران: 61].
فلما دعاهم إلى المباهلة طالبوا أن يمهلهم حتى يَشْتَوِروا، فاشتوروا، فقال بعضهم لبعض: تعلمون أنه نبي، وأنه ما باهل قوم نبياً إلا نزل بهم العذاب. فاستعفوا من المباهلة، فصالحوه، وأقروا له بالجزية عن يد وهم صاغرون، لما خافوا من دعائه عليهم، لعلمهم أنه نبي، فدخلوا تحت حكمه، كما يدخل أهل الذمة الذين في بلاد المسلمين تحت حكم الله ورسوله، وأدوا إليه الجزية عن يد وهم صاغرون، وهم أول من أدى الجزية من النصارى.
واستعمل عليهم وعلى من أسلم منهم عمرو بن حزم الأنصاري، وكتب له كتابا مشهورا، يذكر فيه شرائع الدين، فكانوا في ذمة المسلمين تحت حكم الله ورسوله ونائب رسوله عمرو بن حزم الأنصاري ، وقصتهم مشهورة متواترة، نقلها أهل السير، وأهل الحديث، وأهل الفقه، وأصل حديثهم معروف في الصحاح، والسنن، كما سنذكره إن شاء الله تعالى".
أما كفار أهل الكتاب الذين يرفضون الإسلام، ويرفضون الخضوع للمسلمين وأن يعطوا الجزية وهم صاغرون، فيقاتلهم المسلمون.. فإن نصرهم الله عليهم طُبقت عليهم الأعراف التي كانت متبعة في ذلك العصر على من يُهزم في حرب ويدخل أعداؤه دياره. كانت الجزية أول ما يفرض وكانت كل أموالهم وعقاراتهم غنيمة وملكاً للجيش الذي قاتلهم وانتصر عليهم، ويمكن أن تسبى ذراريهم ونساؤهم ويتحولون إلى عبيد يتم توزيعهم على المحاربين كجزء من الغنائم.
لم تكن الأعراف الدولية في القديم تبقي أية حقوق للشعوب المغلوبة بالحرب، إلا ما يجود به عدوهم الذي تغلب عليهم. وهذا يعني أن من يقبل بدفع الجزية وبفتح دياره للإسلام صلحاً دون حرب يكون موفقاً، حتى لو كان صاغراً، لأنهم عندها لا يغرمون إلا الجزية والخضوع والتبعية لدولة الإسلام، وشتان بين حالهم وحال الذين يستكبرون ويغترون بقوتهم فيختارون القتال على أمل الانتصار على الفاتحين المسلمين، لأنهم كانوا قلما ينتصرون، فقد فتح المسلمون كل البقاع التي تسمى الوطن العربي والأندلس وبلاد الفرس والترك والهنود خلال عقود قليلة.
ويتبع>>>: المواطنة والعلاقة بغير المسلمين2
واقرأ أيضًا:
كرامة المريض النفسي ــ محاربة الوصمة / رحلتي إلى علم النفس الإسلامي1