في زمنٍ أصبح فيه الظهور الدائم والتألق المتواصل معياراً للنجاح، بات من الغريب، بل ربما من المعيب، أن نعترف بأننا نحب لحظاتنا العادية الهادئة، التي لا تحمل في ظاهرها أي شيء مميز، تلك اللحظات التي نعيشها بعيداً عن عيون الناس، ولا نلتقط لها صوراً للإنستغرام، ولا نرويها في حكايات المساء، ولكنها مع ذلك تشعرنا بطمأنينة وسكينة، وتمنحنا شعوراً نادراً بالسلام الداخلي!
الهدوء هنا ليس فراغاً ولا مللاً، بل هو مساحةٌ من التصالح مع الذات، حين لا نحتاج لأن نُثبت شيئاً لأحد، ولا لأن نعيش في سباقٍ محموم لإرضاء معايير الآخرين، إنه ببساطة تلك اللحظة التي تضع فيها رأسك على وسادتك دون قلق، أو تجلس مع كوب شاي في شرفة منزلك دون أن يكون لديك ما تفعله سوى مراقبة العالم بتأمل وسكون.
المجتمع يا صديقي لا يقدّر -مع الأسف- مثل هذه اللحظات، فهو يطالبك دومًا بأن تعيش على إيقاعٍ مرتفعٍ، ويشعرك بأن الحياة العادية ليست إلا مضيعةً للوقت، إنها ثقافة تُشعرنا بالذنب إن لم نملأ جدولنا اليومي بالمهام، وكأن لحظات الهدوء والراحة هي ضعفٌ أو فشلٌ في استغلال الحياة!
نحن نهرع غالباً لملء أي فراغ قد يواجهنا، إما بالعمل أو بالتسلية، أو حتى بالقلق، ربما لأننا نخشى مواجهة أنفسنا في لحظات الصمت، ونخاف من أن نكتشف أننا قد لا نعيش الحياة التي يفرضها علينا الآخرون، ولكن في الحقيقة إن القدرة على البقاء في حالةٍ من الهدوء، أو ما أسميه باللحظات العادية، من دون الشعور بالحاجة إلى الهروب أو إرضاء أحد، هي في حد ذاتها مهارة نفسية استثنائية تستحق التقدير!
هذه اللحظات التي قد تبدو للآخرين مملةً أو عديمة الفائدة، هي في الحقيقة كنزٌ نفسي لا يدركه سوى من فقده، وهي مساحةٌ نادرة نستطيع فيها أن نسمع أنفسنا بوضوح، وأن نختبر فيها معنى أن نكون مكتفين بذاتنا من دون إضافات أو تعديلات أو أقنعة!
لذا في المرة المقبلة، التي يخبرك فيها أحدهم بأن حياتك عاديةٌ أكثر من اللازم، ابتسم بهدوءٍ وثقة، وأخبره بأنك لا تزال منشغلًا جدًا بالاستمتاع بلحظاتك الهادئة، ثم ذكّره بلطف أن أكثر الناس قلقًا هم أولئك، الذين لا يستطيعون البقاء مع أنفسهم من دون ضجيج، وأن الهدوء الحقيقي ليس مجرد راحةٍ مؤقتة، بل هو إنجازٌ نفسي عظيم لا يقدّره إلا من امتلك القدرة على الاستمتاع به!
واقرأ أيضًا:
عندما جعلني الصمت.. متحدثاً بارعاً! / عاديون جداً... سعداء جداً!