تصفح الهاتف لساعات دون هدف محدد، مشاهدة مقاطع فيديو قصيرة بلا نهاية، الانغماس في مسلسلات تلفزيونية لا تنتهي، التسوق العشوائي عبر الإنترنت، الأكل دون جوع حقيقي، النوم الزائد عن الحاجة، أو حتى العمل المفرط والانشغال المستمر بتفاصيل لا تنتهي، كلها ليست مجرد عادات عفوية أو تصرفات بريئة نمارسها دون وعي، بل هي طقوس هروب دقيقة ومحكمة ومدروسة نؤديها يومياً، دون أن ندرك حقيقتها العميقة، إنها الطرق الماهرة والذكية التي اخترعناها لتجنب مواجهة أنفسنا والهروب من الأسئلة الصعبة والمشاعر المعقدة والحقائق المؤلمة التي تنتظرنا في لحظات الصمت والفراغ والهدوء!
هذه الطقوس لها قواسم مشتركة واضحة، فهي جميعاً تتطلب الحد الأدنى من التفكير، وتوفر إشباعاً فورياً ومؤقتاً، وتملأ الوقت بطريقة تبدو منتجة أو ممتعة أو ضرورية، لكن الأهم من كل ذلك أنها تبقينا مشغولين بما يكفي لتجنب الغوص في أعماق أنفسنا أو التفكير في الأمور التي قد تزعجنا أو تتطلب منا قرارات صعبة أو تغييرات حقيقية في حياتنا، إنها بمنزلة مخدر نفسي لطيف يحمينا من ألم الوعي بالواقع، ويؤجل مواجهة الحقائق التي قد لا نكون مستعدين لها بعد!
ما يجعل هذه الطقوس خطيرة بشكل خاص هو أنها تتنكر في زي الأنشطة المفيدة أو الممتعة أو الضرورية، فالشخص الذي يعمل 12 ساعة يومياً قد يعتقد أنه منتج ومجتهد، بينما قد يكون في الواقع يهرب من مواجهة مشاكل في علاقاته الشخصية أو أزمة معنى في حياته، والشخص الذي يقضي ساعات في تصفح وسائل التواصل الاجتماعي قد يبرر ذلك بأنه يتابع الأخبار أو يتواصل مع الأصدقاء، بينما هو يتجنب الجلوس مع نفسه والتفكير في مستقبله أو قراراته المعلقة، وبمثل هذه التبريرات شبه المقنعة نصبح خبراء في خداع أنفسنا والتنكر لحقيقة ما نفعله!
المشكلة الكبيرة في هذه الطقوس أنها تتحول مع الوقت إلى ما يشبه «السجن الذهبي»، إذ قد نشعر بالراحة المؤقتة لكننا في الوقت ذاته نفقد القدرة على المواجهة الحقيقية، ونصبح أقل قدرة على تحمل الصمت أو الفراغ أو الملل، وأكثر خوفاً من الأسئلة الكبيرة حول معنى وجودنا وجودة علاقاتنا ورضانا عن حياتنا، فنبدأ في الاعتماد على هذه الطقوس كما يعتمد المدمن على مادته المخدرة، نحتاجها للشعور بالأمان والاستقرار، ونشعر بالقلق والضيق حين نُمنع منها أو نضطر للتوقف عنها، وهكذا نصبح أسرى لعاداتنا التي كانت في الأصل محاولة للهروب من الأسر!
لعل المفتاح في كسر تلك العادات يكمن في إدراك أن مواجهة الواقع ليست دائماً مسألة مريعة كما نتخيل، ولا تتطلب دائما قرارات جذرية أو تغييرات مؤلمة، فأحياناً تبدأ المواجهة بمجرد الاعتراف البسيط بأننا لسنا راضين عن شيء ما، أو أننا نشتاق لشيء مفقود، أو أننا نحتاج للتفكير بهدوء في اتجاه حياتنا، والمهم هو أن نبدأ بالتدريج في تقليل هذه الطقوس وخلق مساحات صغيرة من الصمت والتأمل، مساحات نستطيع فيها أن نسمع أصواتنا الداخلية ونتعرف على احتياجاتنا الحقيقية، وأن نكتشف أن الهدوء والفراغ ليسا عدوين بالضرورة، بل لعلهما صديقان يحملان لنا هدايا ثمينة من الوضوح والسكينة الداخلية، التي لا تقدر بثمن!
واقرأ أيضًا:
عاديون جداً... سعداء جداً! / دفاعٌ.. عن اللحظات العادية