المواطنة والعلاقة بغير المسلمين7
إني أسائل نفسي: متى يراجع المسلمون أنفسهم ويتخلصوا من عقد التاريخ التي كانت سياسية بحتة حولها المسلمون إلى دينية عقدية، من يخالفها يكون كافراً أو على الأقل ناقص الإيمان. السابقون معذورون وهذه كانت وسائلهم في الصراع ما بينهم، لكننا نحن في هذا الزمن أقدر منهم على الرؤية والتحليل ودراسة ما حدث والتحرر من إساره لنعود إلى الكتاب والسنة ونكتفي بهما مصدرين للتشريع لا ثالث لهما، نحيل كل مستجدات حياتنا ونردها إلى أولي الأمر منا، أي حكمائنا في الاختصاصات المختلفة وممثلينا في المجالس التشريعية ليختاروا للأمة ما ينفعها ويجنبوها الوقوع فيما يضرها.
بعد وفاة محمد ﷺ لا أحد معصوم إلا آيات القرآن الكريمة المحكمات ذوات الدلالة القطعية وما صح من حديث شريف قطعي الدلالة أيضاً، والباقي يكفينا فيه غلبة الظن وعلى الله القبول. إن التحرر من خرافة العصمة عند السنة وعند الشيعة لن يتم بسهولة أبداً، بل يحتاج إلى جهود جبارة من أبناء الأمة الإسلامية، الذين يجتمع فيهم الذكاء العالي وقوة الشخصية اللازمة للإبداع، كي يخلصوا الأمة من خرافتين دخلتا العقيدة الإسلامية وترسختا وصارت لهما جذور عميقة فيها. الأمر خطير ويستحق الجهد، وسيكون هو أقوى ما نفعله تأثيراً كي تنطلق الأمة، سنتها، وشيعتها، لتعود لها العزة التي ضاعت وليلقي الإسلام بجرانه وأثقاله في الأرض، ويظهر على الدين كله.
المواطنة والانتماء عند المسلم
إذن في هذا الزمان صار المسيحي وغير المسلم عموماً مواطناً مثلي، له بحكم انتمائه للدولة التي أنتمي إليها كل الحقوق والواجبات، ولم يعد ذمياً؟ كيف أتقبل أنني أنتمي أنا والكافر لأمة واحدة؟ وكيف اطمئن على مستقبل أمتي إن أعطي هؤلاء الحق في الوصول إلى المراتب القيادية العليا؟، وهل يمكنني أن أثق بمسيحي أو ماركسي ملحد أو غيرهما من الكفار الذين يشاركونني الانتماء إلى دولة واحدة؟ لقد عشنا نحن وهم القرون العديدة في بلد واحد وربما في حي واحد لكنني كنت دائماً أعتبر نفسي واحداً من أمة الإسلام، وأعتبر الخليفة من أي قطر أو لغة أميراً لي، أما الكفار الذين كان علي أن أتعايش معهم فما كنت أشعر يوماً أنني أنتمي أنا وهم إلى أمة واحدة، كانوا من أمة أخرى يعيشون ما بيننا بشروطنا وعليهم أن يحمدوا الله على تسامحنا معهم وامتناعنا عن ظلمهم واضطهادهم. الحق معي أليس كذلك؟
مؤلم الانتقال من العزة إلى التشارك مع الآخرين المختلفين عنا، والأسوأ أننا أجبرنا على ذلك. لكن دعونا نفكر ونحن دائماً نرد الأمور التي تشكل علينا إلى الله والرسول، أي إلى الكتاب والسنة إضافة إلى الحكمة التي تكسبنا إياها خبرة الحياة. المواطَنة لمن يجد هذا المصطلح جديداً عليه وغير محدد المقصود منه، هي ببساطة أن يكون لأهل دولة من الدول الحقوق والميزات نفسها بغض النظر عن أي اعتبار آخر غير انتمائهم لهذه الدولة، كما يكون عليهم الواجبات نفسها نحوها، ولهم الحق في المشاركة في بنائها وتسييرها، ولرأيهم الوزن والاعتبار نفسه، بغض النظر عن جنسهم (نساء أو رجال) وعن لغتهم وأصلهم القومي وعن دينهم ومذهبهم وقناعاتهم وفلسفتهم بالحياة.
أي إن أخذنا مثالاً سورية والسوريين، فالمواطنة هي انتماؤنا كلنا لسورية، أي نشكل أمة اسمها السوريون، العضوية فيها لكل سوري مسلماً كان أو مسيحياً أو غير ذلك، مؤمناً كان أو ملحداً، رجلاً كان أو امرأة، طفلاً كان أو بالغاً أو مسناً، أبيض البشرة أو أسودها، عربياً أو كردياً أو أرمنياً أو شركسياً أو تركياً أو غير ذلك، ناطقاً بالعربية أو بغيرها... كلنا سوريون تجمعنا الجنسية السورية ولا تفرقنا لا الأديان ولا اللغات ولا الجنس ولا اللون ولا العمر.
يكون السوريون بمثابة عائلة واحدة كبيرة تتكون من السني والشيعي والإسماعيلي والدرزي والعلوي النصيري، والمؤمن والملحد والإسلامي والعلماني، والعربي والكردي والشركسي والأرمني والتركي، والرجال والنساء والأطفال والشيوخ المسنين، كلهم تربطهم رابطة أنهم سوريون، وكلهم لهم في سورية الحق نفسه في أن يتمتعوا بخيرات الوطن وبأي امتيازات للمواطن السوري، ولهم الحق في المشاركة السلمية في بناء سورية وتقلد أي منصب يكون الواحد منهم أهلاً له من حيث الكفاءة والطاقة (بسطة في العلم والجسم) و(القوي الأمين) دون أي اعتبار آخر طالما أنهم سوريون. هذا يعني أنه لا يمكننا بناء دولة إسلامية كما نحلم في سورية وكما هي الدولة الإسلامية في تصورنا.
المواطنة الآن حق لكل سوري وسورية بكل ما تتضمنه من حقوق وواجبات، وليست تنازلاً منا أو تكرماً من الأغلبية السنية على الأقليات ولا تعبيراً عن تسامح ديننا. السوريون كلهم شركاء في سورية لكل منهم نفس القدر الذي للآخر، ولنشبه الأمر بشركة مساهمة أصحابها من أديان وقوميات وأجناس وأعمار وألوان مختلفة. كلهم شركاء فيها لهم نفس العدد من الأسهم، فإن ربحت وكبرت عاد الخير والربح على الجميع بالتساوي، وإن خسرت وتعثرت خسر الجميع بنفس القدر. هل في شركة مثل هذه يقتصر الإخلاص والولاء للشركة على فئة معينة من المساهمين فيها، بحيث يكون ولاؤهم لها وحرصهم عليها لا شك فيه، بينما الأصل في المساهمين من الفئات الأخرى عدم الولاء والإخلاص وسهولة التورط في الخيانة؟ الجميع شركاء بالتساوي في الربح وفي الخسارة وليس فيهم لص فاسد، سيكون ولاؤهم وحرصهم وإخلاصهم لهذه الشركة متساوياً، لأنهم كلهم بشر وعقلاء ومفطورون على الفطرة ذاتها.
كان عمر بن الخطاب على حق في الحذر من الذميين لا لأن الخيانة والغدر متوقعة أو متأصلة فيهم لأنهم من دين آخر وبالنسبة لنا كفار، بل لأنهم كانوا أمماً مغلوبةً ومضطرةً لأن تكون وراء المسلمين، الذين كانوا يرون أنفسهم هم المواطنين، ويرون الباقين ذميين في رعايتهم. ليس من المستبعد من المهزوم دينياً وسياسياً، الذي تحول إلى مستأجر لبستانه، وإلى ذمي لا يقبل في الجيش، بل عليه ضريبة سنوية يؤديها صاغراً، أن يفكر بخيانة أمة لم تقبله واحداً منها، ما لم يغير دينه، وهو متمسك به. لذا كان الذمي الذي يدخل في الإسلام يصير مواطناً تماماً مثل المسلمين الفاتحين، ويصبح واحداً منهم بكل ما تعنيه الكلمة، يصبح أخاهم (فقهوا أخاكم) مع أنه قبل لحظات كان ذمياً معاهداً يعيش بين المسلمين في حمايتهم وعلى أرضهم.
إن شعور الإنسان أن وطنه يعترف به كمواطن لا يقل عن غيره وله القدر والمكانة والحقوق نفسها، يجعله يتعلق بهذا الوطن ويشعر بالولاء له، وقد يقدم حياته في سبيله، بغض النظر عن دينه ومعتقده. ألا يقاتل من هم بالنسبة لنا كفار على اختلاف مللهم ويُقتلون في سبيل أوطانهم؟ هل يضحي بنفسه إن كان لا يحب باقي المواطنين معه؟ ما الوطن؟ هل هو مجرد الأرض؟.. إنه الأمة، الأسرة الكبيرة التي يعتز أفرادها بالانتماء إليها مع أرضهم وحكومتهم. الوطن ليس مجرد التراب.
سورية بالنسبة لي ليست بقعة جغرافية مجردة، إنها الأرض والعمران والإنسان والتاريخ والمستقبل، والثقافة واللغة والأزياء والعادات والأكلات والفنون... انتماء الإنسان للوطن هو الانتماء للأمة التي تعيش على ترابه أكثر منه انتماء لبقعة جغرافية. نعم البلد ذو الطبيعة الخلابة أو الطقس اللطيف نعمة، لكن الشعوب متعلقة بأوطانها مع أن أكثرها فيها ما لا يريح.
ويتبع>>>: المواطنة والعلاقة بغير المسلمين9
واقرأ أيضًا:
كرامة المريض النفسي ــ محاربة الوصمة / رحلتي إلى علم النفس الإسلامي1