المواطنة والعلاقة بغير المسلمين6
فربنا يعتبر الإكراه في الدين الذي يسميه فتنة جريمة وظلماً أشد من القتل. وهذا أحد معاني كلمة فتنة في القرآن، حيث قال الله تعالى عن أصحاب الأخدود الذين أكرهوا الناس على العودة لعبادة الملك بدل عبادة الله وألقوا في أخدود النار كل من ثبت على الحق: «فتنوا المؤمنين والمؤمنات» ولنقرأ هذه الآيات: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ{4} النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ{5} إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ{6} وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ{7} وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ{8} الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ{9} إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ{10}﴾ [البروج: 4-10].
وربنا كلف المسلمين أن يكونوا حراساً لحق البشر كلهم في حرية الاعتقاد، ووعد الجنة لمن يقتل منهم دفاعاً عن حرية غيرهم. لا تستغربوا فنحن مأمورون أيضاً أن نقاتل لرفع الظلم والاضطهاد عن أية أمة مستضعفة مؤمنة كانت أو كافرة. قال تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً{75}﴾ [النساء: 75].
عام 1994م في شهر إبريل/نيسان بدأت مذابح في رواندا قام فيها المتطرفون من قبائل الهوتو بقتل حوالي مليون من الرجال والنساء والأطفال من قبائل التوتسي خلال ثلاثة أشهر، وتم قتل الكثيرين بالمناجل والفؤوس لعدم توفر أسلحة نارية للجميع. فرنسا وبلجيكا أرسلتا حوالي ألف جندي إلى رواندا من أجل حماية رعاياهما هناك، ولم يتدخل أحد. بعد المذابح بسنين عبر مسؤولون أمريكيون عن شعورهم بالذنب والخزي لأنهم لم يفعلوا شيئاً لإيقاف تلك المذابح، ثم تكشَّف أن فرنسا كانت مشاركة في المذابح. لو كان للمسلمين دولة عظمى مثل الولايات المتحدة الأمريكية هل كانوا سيتركون أولئك المستضعفين من الرجال والنساء والأطفال يذبحون بمعدل عشرة آلاف ذبيح كل يوم؟ إن قتالنا واستشهادنا لإنقاذ هؤلاء المستضعفين وإن كانوا غير مسلمين عبادة وجهاد تماماً كالجهاد لإعلاء كلمة الله.
أعود لحرية الاعتقاد والدعوة والعبادة التي تسود الأرض هذه الأيام لأذكر أنه لم يعد هنالك مبرر لأي قتال للذين كفروا من أهل الكتاب ولا من غيرهم، بل هي الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة وتأليف القلوب بالإحسان إلى الناس، لأن الحب والرغبة في الانتماء هما أكبر دافعين للناس لأن يؤمنوا بدين الله. وهذا يعني أنه ليس متوقعاً أن يصبح عندنا ذميون مرة أخرى.
لكن أليس لنا الحق إن استعدنا عزتنا أن نفرض على المسيحيين وغيرهم ممن كانوا ذميين في بلادنا أن يلتزموا بالشروط العمرية لأن الذي ألغى تطبيق هذه الشروط هو الاستعمار الأوربي الذي ليس له أية شرعية أو حق أن يفقدنا الامتيازات التي كنا نتمتع بها؟
لا ليس لنا الحق في ذلك. إن انتصار المسلمين على البلاد التي فتحوها جعل كل أهلها من غير المسلمين ذميين، وانكسارنا أمام الأوربيين جعلنا والذين كانوا ذميين عندنا، نتساوى كمواطنين في دول أنشأها المستعمرون ولم يأخذوا رأينا في حدودها المصطنعة. هكذا الدنيا، انكسار المسيحيين أمام الجيوش المسلمة حولهم إلى ذميين في بلادهم، أما انكسارنا أمام الأوربيين فلحسن حظنا لم يحولنا إلى ذميين وبخاصة أن المستعمرين مسيحيون، بل أفقدنا الامتيازات وأخرج المسيحيين وغيرهم من رتبة الذميين إلى رتبة المواطنين. طالما نرى تحول من لم يسلم من أهالي البلاد التي فتحها المسلمون إلى ذميين بسبب هزيمة عسكرية حلت بهم نراه عدلاً، فإنه من العدل أيضاً أن تتحسن حالتهم بمجرد هزيمتنا عسكرياً أمام من يشاركونهم الدين والمعتقد.
﴿...وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ...﴾ [آل عمران: 140].
من سياسة إلى ديـن
لكن أليست الجزية والشروط العمرية من فرائض الإسلام وعلينا تطبيق جميع فرائضه ولا نخشى في الله لومة لائم؟ أوافق أن علينا أن نطبق ديننا دون مبالاة باستحسان الآخرين لذلك أو استنكارهم، لكن علينا التأكد أن ما سنطبقه ونصطدم مع الآخرين بسببه هو فعلاً من ثوابت الدين. أعود لأكرر أن الجزية لا يحل للمسلمين أن يأخذوها من أهل الكتاب وغيرهم إلا نتيجة التغلب بالقوة العسكرية عليهم، وكلنا نعلم أن دولنا التي نعيش فيها الآن ليست ثمرة انتصاراتنا، بل ثمرة هزائمنا وضعفنا. أي بعد تخلفنا وتراجعنا حتى عن ثوابت ديننا وانتشار الجهل فينا سواء بالدين أو بالدنيا لم يعد لنا الحق في استعادة ما فقدناه من وضع متميز في بلادنا كمسلمين. أما الإجماع الذي بناء عليه اعتبر أخونا الشيخ علي نايف الشحود وغيره من الإسلاميين الجزية والشروط العمرية واجبة التطبيق على غير المسلم لمجرد أنه غير مسلم مغلوباً كان أو غالباً فله حكاية أخرى.
عندما اختلف المسلمون حول أحقية علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في أن يكون خليفة رسول الله وادعى من تشيع له أن النبي ﷺ أوصى لعلي بالخلافة وأن هنالك نصوصاً في القرآن والحديث تثبت ذلك، وبالغوا في الأمر فأضافوا في الشهادة "وأن علياً ولي الله" بعد "أن محمداً رسول الله" بحيث تحولت السياسة إلى عقيدة دينية، لم يجد أهل السنة والجماعة نصوصاً قوية ترجح حق أبي بكر وعمر وغيرهما بخلافة رسول الله، إنما كانت مبايعة أبي بكر قراراً بناء على اتفاق الصحابة للحفاظ على الاستقرار ودرء الفتنة بين المسلمين، بالغ السنة أيضاً وأدخلوا السياسة في العقيدة فجعلوا إجماع الصحابة وكذلك إجماع مجتهدي الأمة في أي عصر من العصور مصدراً للتشريع لا يقل عن القرآن والسنة، وادعوا أن الأمة بمجموعها معصومة من أن تجتمع على ضلالة، وبالتالي يكون كل ما أجمعت عليه متمثلة بمجتهديها في عصر من العصور حقاً ثابتاً لا شك فيه، وعلى الأمة التوقف عنده والالتزام به وعدم مراجعته إلى يوم القيامة.
وبالمقابل آمن الشيعة أن أئمتهم المختارين من الله من ذرية فاطمة الزهراء رضي الله عنها معصومون، وكل ما يأتون به من حلول للمستجدات في حياة المسلمين إنما هو استمرار لرسالة محمد ﷺ من دون أن يكونوا أنبياء، فصار الإيمان بالولاية عقيدة لا يكتمل إيمان المسلم من دونها، لأنه يترتب عليها الإيمان بعصمة الأئمة وبكونهم مصدراً متجدداً للتشريع في الإسلام. واضح أن اعتقاد العصمة للأئمة وأن ما يقولونه مصدر للتشريع لا يقل عن الكتاب والسنة، وكذلك الاعتقاد أن الأمة بمجموعها معصومة، وأن إجماع مجتهديها في أي عصر بعد النبي ﷺ هو المصدر الثالث للتشريع الإسلامي، واضح أن كلاً من العصمتين، عصمة الأئمة وعصمة الأمة كانتا وما تزالان وسيلتي السنة والشيعة لإجبار كل من ينتمي لهاتين الطائفتين على عدم الخروج عن رأي سياسي تجاوزه الزمن متعلق بمن كان أولى أن يخلف رسول الله، علي أم أبو بكر ثم عمر.
صدقوني كثيراً ما أقرأ لعالم دين معاصر أو من السابقين وأعجب كثيراً برجاحة عقله وقدرته على التفكير الناقد المستقل ومنطقه السليم أو القوي في المحاججة، ثم يفاجئني بتحوله إلى مجادل غير منطقي، يعتبر الأدلة الهزيلة أدلة قطعية، ويقع في أخطاء التفكير والمحاكمة العقلية التي كان ينتقد غيره عليها قبل سطور، كل ذلك ليثبت العصمة والحجية التي ما بعدها حجية للإجماع إن كان سنياً وللأئمة من آل البيت إن كان شيعياً. يجادلون لإثبات إحدى هاتين القناعتين بالمنطق الهزيل نفسه الذي يجادل به مسيحي يريد أن يثبت لنا أن عيسى ابن الله. لكن ولله الحمد ليس انحرافنا وانجرافنا مع السياسة خطيراً مثل الإيمان أن لله ولداً، وإن كان الإيمان بكلتا العصمتين قد أعاق الأمة عن التطور الفقهي والفكري الديني الذي هي بأمس الحاجة إليه في هذا الزمان.
ويتبع>>>: المواطنة والعلاقة بغير المسلمين8
واقرأ أيضًا:
كرامة المريض النفسي ــ محاربة الوصمة / رحلتي إلى علم النفس الإسلامي1