المواطنة والعلاقة بغير المسلمين5
خــــوف مبـــــرر
في زماننا هذا استحيا كثير من المسلمين أن يكون أسلافهم قد فرضوا هذه الشروط على أهل الذمة، فحاولوا نفيها بالقول إنها لا أصل لها بل وضعت بعد عمر بن الخطاب بأجيال، ومنهم من قال هي شروط، للحاكم المسلم الحرية في تطبيقها أو تركها، لكن هنالك من الإسلاميين الذين يكرهون ضعفنا أمام الغربيين وحرصنا على نيل إعجابهم ورضاهم ولو على حساب ديننا من انبرى للدفاع عن الشروط العمرية وليثبت من المراجع الإسلامية أنها ليست موضوعة، وأنها كانت مطبقة، وأنها يجب أن تطبق من جديد عندما توجد الظروف المناسبة.
الشيخ علي بن نايف الشحود باحث في العلوم الإسلامية واسع الاطلاع وغزير الإنتاج وكتابه «المفصل في شرح الشروط العمرية» رائع وشامل ومتوافر على النت ويغني القارئ عن العودة للمراجع القديمة التي قد تكون قراءتها غير مريحة للبعض لاختلاف التعابير والمصطلحات. المهم، الشيخ علي يؤمن أن هذه الشروط يجب فرضها على اليهود والنصارى كلما أمكن ذلك إلى يوم القيامة، فهي برأيه من ثوابت الإسلام مع أنه لم يذكر في القرآن منها أكثر من الجزية والصغار لكفار أهل الكتاب، ولم ترد في الأحاديث الشريفة. هو يرى أنه طالما جمع عمر بن الخطاب نخبة الصحابة الذين كانوا معه في المدينة المنورة وعرض هذه الشروط عليهم لأخذ رأيهم فأجمعوا عليها، فقد صارت فريضة دائمة لأن كل إجماع للأمة ينتج عنه أحكام معصومة من الخطأ وواجبة على الأمة إلى يوم الدين.
هذه الشروط التي فرضت على أهل الذمة في بلادنا قروناً عديدة نادر منا من اطلع عليها، بينما هنالك ناشطون حاقدون من المسيحيين أشهروها في الأوساط المسيحية في المنطقة، لتحريضهم على العمل على أن لا تتكرر بأي شكل من الأشكال. لا يمكننا أن نلوم أحداً أنه منزعج من تاريخه الذي كان فيه أجداده الذين أصروا على دينهم يعيشون حياة فيها صغار كما أمر القرآن الكريم. كما إننا نستطيع أن نفهم الرعب المنتشر عند المسيحيين في المنطقة بعد ثورات الربيع العربي خشية أن يصل إسلاميون متشددون للحكم فيفرضوا عليهم هذه الشروط من جديد.
صحيح أن الشروط العمرية مذلة للذميين، لكنها كانت مطبقة في جو من الرحمة، إذ لم يعرف التاريخ فاتحاً رحم الشعوب المغلوبة كما رحم العرب الشعوب التي فتحوا أو قل احتلوا بلادها. لم يحتلوها لينهبوا خيراتها ويستعبدوا أهلها، بل لإزالة أية حواجز أمام دعوتهم تعيق دخول أولئك في الإسلام دون إكراه، وأذكركم بالحكمة التي أعتقد أن الله أرادها عندما قال: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)، لكن لم يسجل التاريخ أي اضطهاد لليهود والنصارى في البلاد الإسلامية، اللهم إلا ما يدعيه الأرمن من اضطهاد مارسه عليهم القوميون الأتراك خلال وبعد الحرب العالمية الأولى، وهو لم يحدث لأسباب دينية على الإطلاق، إنما وقع لأن الأرمن تعاونوا مع الجيش الروسي الذي احتل شرق تركيا وارتكبوا مذابح بحق أهلها. كان الأرمن بنظر الجيش التركي خونة يستحقون أقسى معاملة، وبخاصة أن القوميين الأتراك الذين أسقطوا الخلافة العثمانية، كانوا هم المسيطرين على الجيش التركي. أي بكل بساطة، الإسلام بريء من أية مذابح بحق الأرمن والقضية كانت قومية.
ثم من شاء منكم فليقرأ تاريخ اليهود في أوربا على مدى القرون التي سبقت الثورة الفرنسية ليرى مقدار الاضطهاد الذي وقع على اليهود هناك ولقرون عديدة لمجرد أنهم يهود، إلا في الأندلس حيث ازدهروا مالياً وثقافياً ونعموا بأفضل حياة في تاريخهم بعد الشتات وقبل الثورة الفرنسية. وقد واجهوا مشكلة كبرى عندما سقطت الأندلس بكاملها بيد النصارى الأوربيين، فهاجر بعضهم إلى المغرب واستوعبت تركيا العثمانية الباقي، فاستقروا آمنين في ديار المسلمين. نعم كانت كلمة (وهم صاغرون) تجعلهم درجة ثانية لكن لم يقع عليهم أي ظلم لأنهم يهود كما كان يقع في أوربا المسيحية.
الإسلام لم يلغ الرق وبقي قسم كبير من البشرية عبيداً لغيرهم، لكن الإسلام حرم على السادة أن يظلموا عبيدهم أو أن يكلفوهم مالا يطيقون من الأعمال، وأمرهم أن يطعموهم مما يَطعمون هم أنفسهم وكذلك أن يلبسوهم مما يلبسون.... روى البخاري ومسلم في صحيحيهما أن المعرور بن سويد قال: رأيتُ أبا ذرٍّ وعليه حُلَّةٌ وعلى غلامه مثلُها. فسألتُه عن ذلك؟ قال: فذكر أنه سابَّ رجلًا على عهد ِرسولِ اللهِ ﷺ. فعيَّرَه بأمِّه. قال: فأتى الرجلُ النبيَّ ﷺ. فذكر ذلك له. فقال النبيُّ ﷺ: «إنك امرؤٌ فيك جاهليةٌ. إخوانُكم وخولُكُم. جعلهم اللهُ تحت أيديكم. فمن كان أخوه تحت يدَيه فلْيطعِمْه مما يأكل. وليلبسْه مما يلبس. ولا تكلِّفوهم ما يغلبهم. فإن كلَّفتموهم فأَعينوهم عليه». إن كان هذا هو حال العبيد في الإسلام فما تكون حال الذميين وهم أحرار؟ فحتى الجزية اشترط ربنا أن لا تؤخذ من فقيرهم، بل لا تؤخذ إلا «عن يد» أي من القادرين عليها دون إرهاق. ربنا بعث محمداً ﷺ ليكون رحمة للعالمين أي لشعوب الأرض كلها قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ{107}﴾ [الأنبياء: 107].
وضع جديد وأحكام جديدة
والسؤال هو: ما الذي تغير الآن؟ أليسوا الآن أهل الكتاب والغالبية العظمى منهم غير موحدين لله وينكرون نبوة محمد ﷺ، أي هم كفار ويشملهم قوله تعالى: ﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ{29}﴾ [التوبة: 29]. أولسنا مأمورين بمقاتلتهم وفرض الجزية والصغار عليهم لعلهم يؤمنون؟ ألم يكن الصحابة أعلم بدين الله وهم الذين أجمعوا على الشروط العمرية وبالتالي هي من فرائض الإسلام ويأثم من يتحرج منها؟
أسئلة مشروعة وتحتاج إلى إجابات مقنعة قبل أن نعلن أننا نؤمن بالديمقراطية والمواطنة الكاملة لكل من يعيش على أرض بلداننا بما فيهم من كان أجدادهم ذميين.
أولاً: حتى لو قويت شوكتنا وصرنا أقوى أمم الأرض وبقيت البشرية على حالها تعطي حرية الاعتقاد والتعبير والعبادة لكل الناس فما لنا من حق في قتال أحد إلا دفاعاً. هذه الحرية التي ينعم بها الناس في أوربا وأمريكا وباقي بلدان العالم الحر إنجاز حديث للبشرية لم تكن تتصوره قبل هذا العصر باستثناء الحرية الدينية التي كفلها الإسلام لغير المسلمين. القتال الذي أمر به الله في سورة التوبة ليس قتالاً للدفاع، لأن القتال للدفاع حق تكفله شرائع الأرض وشرائع السماء وقد أذن به الله للمؤمنين بمجرد أن صارت لهم دولة في المدينة المنورة. كان قتالاً هجومياً يسمى قتال الطلب مقابل قتال الدفع في حال تعرض المسلمين للعدوان. لم يكن الهدف من هذا القتال وفتح الأقطار والبلدان أن يتم إكراه أهلها على الإسلام، بل كان الهدف تحريرهم من القيود التي كانت عليهم وكانت تحول دون وصول دعوة الحق إليهم وتحول دون دخولهم في الإسلام إن هي وصلتهم وأرادوا ذلك.
إن أردنا أن نصف الحروب التي خاضها المسلمون وفتحوا بها بلداناً كثيرة بالدفاعية فيمكننا ذلك، لكن لم تكن دفاعاً عن المسلمين، بل دفاعاً عن حرية الاعتقاد وعن حق الشعوب في أن تختار الدين الذي تريده دون إكراه ولا اضطهاد. نعم أمرنا بالقتال كي لا تكون فتنة وكي يكون الدين كله لله. قال تعالى:
﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ{190} وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ{191} فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{192} وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ{193}﴾ [البقرة:190-193].
ويتبع>>>: المواطنة والعلاقة بغير المسلمين7
واقرأ أيضًا:
كرامة المريض النفسي ــ محاربة الوصمة / رحلتي إلى علم النفس الإسلامي1