في الساعة السادسة صباحاً، يستيقظ آلاف البشر ليذهبوا إلى أعمال تسحق أرواحهم، يحملون ابتسامات مزيفة، يتجرعون إهانات مهذبة، يعودون منهكين لبيوت قد لا تكون أكثر راحة، ثم يأتي من يقول لهم بكل بساطة: «اعتزل ما يؤذيك»، وكأن الحياة مسرحية يمكنهم الخروج منها متى شاؤوا، وكأن الالتزامات محض أوهام، والمسؤوليات مجرد خيارات!
«اعتزل ما يؤذيك»، نصيحة تبدو حكيمة في عالم مثالي، لكنها في عالمنا الحقيقي تشبه أن تقول للسمكة اتركي الماء إن كان ملوثاً، أو للطائر تخلَّ عن جناحك المكسور، إلا أن بعض الأذى ملتصق بنا التصاق الظل بصاحبه، نحمله معنا أينما ذهبنا، لأنه جزء من حياة اخترناه... أو فُرضت علينا!
الموظف المكبل بالديون والأقساط، هل يترك وظيفته كلما أذلّه مديره؟ والزوجة التي تواجه صعوبات في زواجها، هل تهدم بيتاً بناه الأطفال بضحكاتهم؟ والشاب الذي يعيش في أسرة معقدة، هل يقطع كل الأواصر ويعيش وحيداً؟ قد يستطيع بعضنا فعل ذلك، ولكن الحياة غالبا ليست لعبة نختار فيها اللاعبين، بل ساحة نتعلم فيها فن اللعب مع من... فُرِضوا علينا!
نحن لسنا جُزراً معزولة يمكنها الاكتفاء بذاتها، بل إننا أشجار في غابة واحدة، جذورنا متشابكة تحت الأرض، وأغصاننا متلامسة في السماء، قد نؤذي بعضنا دون قصد أو عن سبق إصرار وترصد، وقد نظلل على بعضنا أحياناً، لكننا نحمي بعضنا من العواصف أيضاً، هذا هو قانون الحياة المشتركة!
الحكمة ليست في الهروب من كل ما يؤلم، بل في التمييز بين الألم الذي يبني، والألم الذي يهدم، بين الأذى العابر، والضرر الدائم، بين ما يمكن احتماله وما يجب رفضه، هذا التمييز الدقيق يحتاج نضجاً وخبرة، لا شعارات براقة يطلقها علينا بعض خبراء تطوير الذات!
نعم، هناك أذى يجب تجنبه، وعلاقات سامة يجب قطعها، ومواقف خطرة يجب الفرار منها، فلست أدعو هنا للمازوخية أو الاستسلام للألم، لكنني أدعو للواقعية في التعامل مع تعقيدات الحياة، والشجاعة في مواجهة ما لا يمكن تغييره، وشيء من الحكمة في تغيير ما يمكن تغييره، ففي ثنايا نفوس الكثير منا شيء من القدرة على الصمود والابتسام رغم الألم، ليس لأننا نحب المعاناة، بل لأننا نحب من نعاني لأجلهم أكثر من كراهيتنا للمعاناة نفسها!
الحياة يا سادة ليست قصة خيالية يمكننا حذف الشخصيات، التي لا تعجبنا منها، بل هي رواية معقدة نضطر للتعايش مع كل شخصياتها، والنضج لا يكمن في البحث عن جنة خالية من الألم، بل في بناء سلامنا الداخلي حتى وسط العاصفة، وفي إيجاد معنى للصمود حين لا يكون الرحيل خياراً، ففي قلب كل علاقة صعبة، وكل وظيفة مرهقة، وكل ظرف قاهر، هناك دروس تنتظر من يتعلمها، وقوة تنتظر من يكتشفها، وحكمة تنتظر من يكتسبها، ولعل الهروب يريحنا مؤقتاً، لكنه يحرمنا من النمو، الذي يأتي من المواجهة الذكية!
قد يتهمني البعض بالبعد عن الواقعية، ولكنني أعتقد أن أولئك الذين نراهم صامدين رغم تعقيدات الحياة، ويحملون جبالاً من الهموم بابتسامة هادئة، هؤلاء ليسوا أبداً أغبياء لأنهم لم يعتزلوا، ولا ضعفاء لأنهم لم يهربوا، بل هم الأبطال الحقيقيون الذين فهموا أن الحياة أحياناً تعني أن تقف في قلب العاصفة وتصنع سلامك الخاص، أن تحتضن الشوك وأنت تقطف الورد، أن تجد المعنى ليس في غياب الألم، بل في تحويله إلى جسر تعبر عليه نحو إنسانية أعمق!
هؤلاء الصابرون الصامتون هم من يحملون العالم على أكتافهم بصمت، يرممون الشقوق دون ضجيج، ويحولون دموعهم إلى مطر لأحلام غيرهم، وحين ينظر إليهم أصحاب النصائح البراقة بشفقة قائلين: «لماذا لا تعتزلون؟»، يبتسمون بحكمة من عرف أن بعض الجذور عميقة جداً، وبعض الروابط مقدسة جداً، وبعض الواجبات أسمى من السعادة الفردية، وأن هناك نبلاً في البقاء، لا يفهمه إلا من اكتوى بناره، وحلاوة في الصبر لا يذوقها إلا من... تجرّع مرارته!
واقرأ أيضًا:
الخوف... من الصواب! / الأصدقاء الذين لا نراهم!
