في هاتفي أرقام لأصدقاء أعزاء لم أتصل بهم منذ سنوات، أسماؤهم تثير في نفسي موجة حنين دافئة، لكنها لا تحركني لرفع السماعة، كأن هناك اتفاقاً صامتاً بيننا، أن نبقى أصدقاء في الذاكرة، بعيداً عن تعقيدات الحاضر وتحولاته، وأن نحفظ بعضنا في تلك اللحظة الجميلة من الزمن، قبل أن تغيرنا الحياة!
هناك صداقات تزدهر في الغياب أكثر مما تزدهر في الحضور، تعيش في مساحة الحنين الآمنة، حيث لا خيبات أمل جديدة، ولا اكتشافات مؤلمة، ولا تغيرات تفسد الصورة المثالية، نحبهم كما كانوا، أو ربما كما نتذكر أنهم كانوا، وهذا الحب المحفوظ في الذاكرة أنقى من أي حب يختبره الواقع يومياً! التقيت صدفة بصديق قديم بعد سنوات من الفراق الذي فرضته ظروف الحياة، كان اللقاء مرتبكاً، كنا نحاول استعادة الكيمياء القديمة فلا نجدها، ونتحدث عن الذكريات فتبدو باهتة أمام الأشخاص الذين صرناهم، هو لم يعد ذلك الشاب المتمرد الذي أحببت، وأنا لست الشخص الحالم الذي عرف، جلسنا نتبادل المجاملات المهذبة، بينما أشباحنا القديمة تقف بيننا صامتة، وافترقنا بوعود لن نفي بها، فكلانا يعرف أن صداقتنا الحقيقية انتهت في تلك اللحظة القديمة، توقفت بفعل قواعد الطبيعة والزمن، لا لمجرد أننا توقفنا عن التواصل!
الحقيقة التي تفرض نفسها هي أن الناس يتغيرون، وليس دائماً للأفضل من وجهة نظرنا، فذلك الصديق المرح قد يصبح جاداً مملاً، والفيلسوف العميق قد يتحول لسطحي يردد شعارات فارغة، والمتمرد قد يصير أكثر محافظة من آبائه، وأنت نفسك تتغير بطرق قد لا تعجبهم، فلماذا نفسد ذكرى جميلة بلقاء قد يخيب الآمال؟
هناك حكمة غريبة في إبقاء بعض الصداقات في الماضي، في حفظها كما كانت، نقية، مثالية، غير ملوثة بتعقيدات الحاضر، نستدعيها عند الحاجة لجرعة من الحنين الجميل، نبتسم لذكراها دون أن نحتاج للقائها، فاللقاء قد يقتل الذكرى، ويبدو أن بعض العلاقات تشبه الورود المجففة، جميلة لأنها توقفت عن النمو في لحظة كمالها، محفوظة في كتاب الذاكرة، تحتفظ بشكلها وإن فقدت رائحتها، لكنها تبقى أجمل من أن نعرضها للشمس والماء مرة أخرى، فقد تتفتت بين أيدينا!
وسائل التواصل الحديثة جعلت الأمر أكثر تعقيداً، صرنا نرى تحولات أصدقائنا القدامى على الشاشات، نشاهد كيف تغيروا، ماذا أصبحوا، ونحمد الله أحياناً أننا لم نبقَ قريبين، لأن الشخص الذي نراه على الشاشة لا يشبه الصديق الذي أحببناه، والأصعب أنهم ربما يفكرون نفس الشيء عنا!
لعل الصداقة الحقيقية ليست بالضرورة تلك التي تستمر، بل تلك التي تترك أثراً جميلاً حتى بعد توقفها، والأصدقاء الذين لا نراهم قد يكونون أقرب لقلوبنا من كثيرين نراهم كل يوم، لأنهم يعيشون في المكان الوحيد الذي لا يصله الزمن، في تلك الزاوية الدافئة من الذاكرة، حيث نحن وهم ما زلنا كما كنا، قبل أن تغيرنا الحياة!
لابد من إدراك أن ليس كل غياب خسارة، وليس كل لقاء مكسباً، فأحياناً تكون أجمل هدية نقدمها لصداقاتنا القديمة هي أن نتركها تعيش في سلام، في ذلك الزمن الجميل، محفوظة من عوامل التعرية التي قد تأتي مع محاولات الإحياء، فهنالك أشياء تصبح أجمل وأثمن.. حين تبقى مجرد ذكرى!
واقرأ أيضًا:
المبالغون.. في الهدوء! / الخوف.. من الصواب!
