س: يفتقر الطب النفسي إلى أدوات التشخيص الموضوعية. وقد ظهرت مؤخراً تقنيات حديثة بدأت تلعب دوراَ تشخيصياً من الدرجة الأولى. فما داعي تقنيات التصوير الوجهي؟
ج: افتقار الطب النفسي إلى أدوات التشخيص الموضوعية يعود إلى طبيعته؛ فالنفس ما زالت أشبه بشيء هلامي، له صفات وأعراض وعلامات لكنها ما تزال وكأنها الفضاء الواسع، فالعقل غير المخ ـ وظيفة وليس عضواً وهنا لب المشكلة.
يعتمد الطب النفسي أساسا على مهارة الطبيب النفسي ـ حرفته ـ وقدرته على تشكيل وتحديد التاريخ الشخصي ومن ثم الوصول إلى التشخيص. أدوات التشخيص الموضوعية محصورة في الجامعات ومراكز البحث العلمي، وهي تقيس نسب مواد هامة مثل الدوبامين والسيروتونين، كما أن هناك أدوات لقياس نسبة تدفق الدم في الأوعية الدموية للدماغ، وعلى سبيل المثال لا الحصر وجدوا أن تدفق الدم في دماغ الناس العاديين مختلف عن هؤلاء الذين يعانون من مرض الوسواس القهري من ناحية توزيع تدفق الدم لجهات معينة وعلى الرغم من ذلك فان اكتشاف هذا الأمر لم يساعد ولم يغير في طرق العلاج ولم تزل تعتمد على العلاج الدوائي والعلاج الإدراكي السلوكي.
أعود إلى التأكيد على أن أدوات التشخيص الموضوعية مثل تخطيط الدماغ والأشعة المقطعية والتصوير بالرنين المغنطيسي MRI تعد أدوات مساعدة ولعلي أسوق مثالاً إكلينيكياً في هذا المجال. "أتاني مريض في الرابعة والخمسين من عمره يشكو من أعراض اكتئابية، عدم قدرة على التركيز، عدوانية تجاه الزوجة: عولج على أنه حالة اكتئاب بمضادات الاكتئاب، ولكن لم يحدث أي تطور بل على العكس ساءت حالته وزاد عليها اضطراب في الكلام مع صداع وهنا انتبهت بالحس الإكلينيكي إلى أن هناك شيئاً عضوياً بالمخ،
قمنا بتخطيط للدماغ فلم يكن هناك دليل على أي اضطراب ثم حولت المريض إلى استشاري الأمراض العصبية الذي قام بعمل أشعة مقطعية Cat Scan وللأسف فإنه لم يقرؤها جيداً وكان مهيئاً ومتأثراً بأن الحالة "نفسية بحتة" ومحولة من استشاري طب نفسي؛
فأعلن مراراً أن الأمر نفسي محض، وحاولت قدر جهدي إخباره بأن الحالات العضوية في المخ بالذات تظهر في صورة نفسية، غير أنه أصر على عناده وزادت الأعراض الاكتئابية قسوة؛ فاضطررنا إلى إدخاله المستشفى ووصف علاج بالجلسات الكهربية، لكن لم يتغير الأمر فعاودنا الحالة إلى أخصائي المخ والأعصاب، بعد 18 شهراً من التشخيص الأولي فقاموا على مضض بعمل أشعة مقطعية ثم قالوا أنها لم تختلف عن الأولى التي أجريت منذ سنة ونصف لكنها تشير على علامات غريبة،
ثم أجري له تصوير بالرنين المغنطيسي فأثبت وجود ورم صغير في الفص الوجهي للمخ وبعدئذ آثرت تحويل الحالة إلى أستاذ متخصص في الطب النفسي والطب العصبي العضوي في لندن، فأجرى الاختبارات الموضوعية مرة أخرى وقاموا بأخذ عينة من الورم وتحليلها معملياً ونسيجياً فتأكد بالدليل القاطع أن هناك ورم سرطاني، يعالج المريض الآن بالعلاج الإشعاعي والكيميائي والكورتيزون، لكنه ينتظر الموت بعد أن أصبح مقعداً".
هناك أيضاً أدوات تشخيص موضوعية تكشف ما يمكن تسميته (بالعلامات البيولوجية) للفصام معقدة جداً تستخدم أحدث طرق التكنولوجيا والتحليل بواسطة الكومبيوتر في كل الأحيان. إن تلك الأدوات رغم تقدمها العلمي الفائق إلا أنها حبيسة تعقد النفس البشرية.
س: ماذا عن استخدام الـ Narco-Analysis ودعمه لعملية التشخيص، وتحديداً لأنه تقنية منه (الباربيتيورات أو غيرها)؟!
ج:حقيقة إن عملية التنويم الكيميائي إن صح التعبير في تراجع؛ فلقد كانت (البابيتيورات) هي أكثر تلك العقاقير استخداماً لكن كانت هناك خطورة بالنسبة للتنفس وغيره، لكنها كانت فعالة لأنها تعمل على القشرة المخية ومن ثم تزيل موانع البوح. لكن ينطبق هذا على الكحول وأية مخدر آخر.
غير أني أميل إلى الاعتقاد بأن تلك العقاقير التي كانت أو ما زالت تسمى "بعقاقير الصدق" ليست إلا أدوات مساعدة، بمعنى أنه إذا كان الإنسان ـ المريضـ غير قادر وغير مقتنع بالبوح فلن تمكنه العقاقير أو أية وسائل أخرى من البوح،
إذن فإن المسألة تعتمد على استعداد المريض وقدرته النفسية وتوقيت الاختبار والظروف المحيطة مثل المكان وشخصية المعالج أو المحلل . أميل إلى استخدام التأمل الإيحائي أو التنويم المعروف (بالمغناطيسي) وذلك بشكل مبسط وخفيف يعتمد على استخدام الحواس الخمس في التخيل والابتعاد عن الواقع وهنا يمكن أيضاً النكوص بالشخص إلى عمر معين.
كذلك فإن أطباء الأسنان والتوليد قد ساعدونا بإدخال ما يسمى بالـRelative Analgesia أو الـ RA وهي طريقة يستخدم فيها غاز النيتروس أوكسيد بنسبة 70 في المائة أو أكثر لإحداث حالة وسطى بين الشعور واللاشعور،
ولقد قمت بتشخيص واكتشاف كوامن عصبية لحالات كثيرة أهمها "الرجل الذي عانى من اضطراب حركي في جسمه ووجهه MOTOR TIC DISORDER ’وكان قد عضه كلب في الطفولة".
ربما كان البوح والاكتشاف وجهاً لوجه والمريض في كامل وعيه أفضل لكن تظل النفس الإنسانية تجد مشقة في مواجهة نفس أخرى، حتى لو كانت للمعالج، ولقد وجدنا في إنجلترا أن بعض المرضى يكتبون أحاسيسهم ويسجلونها على الكمبيوتر، حتى أن بعضهم يكتب رسائل ويرسلها بالبريد الإلكتروني تحوي كم معلومات لم يتوفر قبلاً.
س: عملتم طويلاً في المجال العيادي ثم انتقلتم إلى الاجتماعي والمجتمعي فماذا عن هذه النقلة ومراحل حصولها؟!
ج: في الحقيقة أن (العيادة) ما زالت هي المركز رغم أن الإطار الذي أعمل فيه هو المجتمع، والطب النفسي الذي أمارسه هو المجتمعي. كنت وما زلت شديد الإيمان بأن العوامل الاجتماعية هي الأهم في تكوين المرض النفسي، حتى لو كانت الأسباب بيولوجية وراثية قوية، بمعنى أنه إذا كان هناك تاريخ مرض قوي للفصام العقلي أو الإدمان الكحولي فهناك احتمال قوي لعدم ظهور الأعراض، أو للتحكم فيها وفقاً للظرف الاجتماعي.
أسوق هنا مثالاً "لمريض إنجليزي في العقد الثالث من عمره كان يعمل صيدلياً ناجحاً، ارتبط بزميلة له صيدلية هندية، أدى اختلاف الثقافات إلى توتر اجتماعي أسري شديد بينهما، اشتكى الرجل من أعراض فصامية أدت إلى تركه العمل والإقامة مع أمه التي كانت تعمل طبيبة ممارسة عامة، وكانت شديدة التأثير عليه، كثيرة السؤال، وكانت أيضا مرتبطة برجل آخر غير أبيه، مما خلق تناقضاً وجدانياً شديداً،
دعا الرجل إلى الانسحاب داخل نفسه والانغماس الشديد في أعمال (جيمي جويس) المشهورة بتوترها الجنسي العالي جداً إذن هناك موروثات واضطراب كيماوي وهناك توتر أسري ونفسي وجنسي، غلب المريض فانتكس بشكل عنيف وهاجم الطبيب النفسي المناوب والممارس العام والأخصائية الاجتماعية، الذين أتوا لتطبيق قانون الصحة العقلية عليه، فاعتدى عليهم جميعاً بالضرب والسب.
بعد دخول المستشفى وإعطائه العقاقير. تم تأهيل المريض وإبعاده عن أمه وعن جيمس جويس وإلى حد ما حل التناقض مع خطيبته. خفضنا الدواء كثيراً وقامت مختصة بالعلاج النفسي الاجتماعي برؤيته ورؤية أهله على حدة وبعد سنة أصبح هذا المريض، صحيح العقل والبدن،
مارس الرياضة البدنية، ثم عاد لعمله تحت الإشراف ولفترات زمنية قصيرة زادت حتى أصبح الآن يعمل بشكل عادي ولساعات طويلة وهو على Sulpiride 200 مجم مرتين يومياً فقط". أنا أؤمن بالإنسان وبالمجتمع كعامل أساسي لهذا فإن حركة الطب النفسي المجتمعي التي تبلورت في استراليا والنمسا وأمريكا في منتصف السبعينات بدأت هنا بشكل جدي في إنجلترا في بداية التسعينات، ما زالت هناك مشاكل كثيرة تكتنف الموضوع.
ويعود بنا هذا إلى سؤالك. لأن الطب النفسي المجتمعي لا يتحقق بشكل جيد دون طب عيادي قوي، علاج فعال في المستشفى أولا، متابعة من ممرضات مجتمع نفسيين، وتحقق من تناول الدواء. ما زالت أدوات تحقيق الطب النفسي المجتمعي غير كاملة وغير متوفرة، إنها أمر يكاد يشبه التوجه نحو اليوتوبيا الكاملة، وتعوق هذه أمور مثل الموارد المالية ازدياد عدد المرضى بالتحديد من المراهقين، والمنفصلين والمطلقين وهذا ما يؤكد على الطبيعة الاجتماعية لانتشاره وشكل المرض النفسي في العالم بأسره.
س: الطب النفسي الاجتماعي يهتم برصد الظواهر الاجتماعية، وحركة المجتمع، فهل دراساتكم حول الإرهاب والعنف السياسي تأتي في هذا السياق؟
ج: نعم. ولقد ولد كتابي الأهم "سيكولوجية الإرهاب السياسي" من رحم موقف سياسي اجتماعي طبي نفسي، حيث كنت أعمل استشارياً في الطب النفسي في إحدى دول الخليج، وعاصرت تفاعلات وديناميكيات اجتماعية حادة بين عدد من أبناء الدول العربية بشكل خاص وبعض المرضى من أمريكا والدول الآسيوية والأوروبية مما حفزني إلى ما يشبه التشبث وعشق الموضوع والحفر داخل بؤرة في دأب،
ومن ثم تكشفت لي في الأدبيات المختلفة والدوريات المتخصصة، كذلك في الصحف والجرائد اليومية أن حركة المجتمع تلعب دوراً أساسياً وهاماً وأحياناً وحيداً في العنف والعنف المضاد، ينطبق هذا على أيرلندا الشمالية، الوطن العربي، أمريكا، أوروبا وآسيا، إن التفسخ الاجتماعي وفقدان الهوية في رأيي الشخصي العلمي والسياسي أهم سببين للعنف والإرهاب السياسي.
س: كتابكم المعنون بـ (سيكولوجية الإرهاب السياسي) آثار اهتماماً واسعاً من قبل المعنيين فهل لكم أن تقدموا لنا عرضاً للأفكار الرئيسية لهذا الكتاب؟
ج: كتب الكتاب قبل تسع سنوات تقريباً، حدثت فيها أمور خطيرة وكثيرة في العالم وفي المنطقة العربية غير أن الأفكار الأساسية لهذا الكتاب تتمحور حول الأسباب الموضوعية للإرهاب، خصائص وظروف وفرص من يعد إرهابيا، ولماذا تواجه ممارسات بالإدانة وأخرى، إن لم تكن بالتأييد، فعلى الأقل بالتجاهل والتناسي؟ هل من المقبول إنسانيا أن يواجه الإرهاب بالإرهاب.
الكتاب يعتمد على تحريك أسئلة كثيرة في ذهن القارئ، أسئلة تستثير وجدانه وخياله، الكتاب مهتم بالوثائق والمستندات والمراجع المحكمة المحترمة. لم أحبس نفسي في إطار تخصصي المهني كطبيب نفسي بل أدعى أنني قد تجاوزتها إلى تخصصات أخرى. يهتم بالإنسان والمجتمع، واقعاً وتطلعاً، فوضعت تخصص في إطاره الأشمل والأرحب كما قيل، أعتقد أنني قد قدمت بحثاً جديراً بالمتابعة والحوار. وأنا بصدد إصدار الجزء الثاني خلال عام إن شاء الله.
س: ماذا عن هذا العمل القادم الذي تعدونه في مجال دراسة الإرهاب؟
ج:هو بمثابة جزء ثاني للكتاب الأول "سيكولوجية الإرهاب السياسي"،غير أنه مختلف لأنه يتناول العنف السياسي ـ أصوله، دوافعه من واقع رؤى جديدة ومن واقع مقابلات مع شخصيات لها وزنها السياسي الفكري والاجتماعي. سيكون موثقاً، وربما سيكون موجعاً أيضاً.
س: خليل فاضل الطبيب وخليل فاضل المبدع. كاتب القصة والناقد الفني، كيف يوفق خليل بين هذه النزعات وهل يعتبرها مترابطة، وما هو إنتاجكم الإبداعي؟
ج: أفضل أن تكون الإجابة من مقدمة مجموعتي القصصية الثانية (البنت والنورس) والتي كتبها القاص الصديق حسين عبد العليم "قيل عن خليل فاضل، وكاتب هذه السطور أحد القائلين ـ أن مهنته كطبيب نفسي تأخذ بيده وتساعده، فهو ينظم ويبلور فضفضات مرضاه الكشفية، فيصنع قصصاً جيدة.
وتساعده الموهبة على اختيار ما يكتب وما يشطب. وأظن ـ متراجعاً ـ عن قولي ـ بوجوب قول العكس. إن الفن عند خليل فاضل هو ما يرقى به مهنياً نظراً لامتلاكه موهبة العين الراصدة اليقظة".
نعم إن كل تلك النزعات مترابطة، وأنا شخصياً أعتقد أن الطبيب النفسي غير الموهوب وغير الموسوعي يكون فاقداً لأساسيات هامة في علاقته الإنسانية مع الإنسان المريض، ما عدا ذلك فهو مجرد موظف متعلم يطبق ما هو في الكتب، فحسب. إنني أعشق الفن السينمائي فهو مرآة عاكسة للحياة وتناول كثيراً من الاضطرابات النفسية وتناول صورة الطبيب النفسي بشك لمختلف ومتباين وكثيراً واقعي محترم وحقيقي، وهنا فإنني أدعي أن إسهاماتي المتعددة في مجال النقد السينمائي كثيفة وعميقة وتنفذ إلى العظم وأعتمد أساليب تحليلية نفسية في فهم أفلام بعينها والحمد لله أن كل ما كتبته في هذا الإطار نشر وبسرعة.
انتقالي من المنطقة العربية إلى أوروبا لدراسة الطب النفسي ثم العودة إلى المنطقة العربية، مرة أخرى بعد التخصص من الكلية الملكية أضاف كثيراً إلى معرفتي. صحيح أن الناس هم الناس، لكن النظم الصحية والاجتماعية مختلفة، ومن هنا نتوقف ونتفحص الأمور بعناية. في إحدى الدول العربية عالجت مريضاِ تحدثت عنه سابقاً عضه (كلب غني) أي كلب لأسرة غنية وكان المريض طفلاً فقيراً، ومن ثم تولدت لديه أعراض حركية نفسية وتقمص للكلب حينما يطرد الذباب ويمشي ولقد استخدمت طريقة التنويم الإيحائي باستخدام غاز مخدر RA وسجلت الجلسات كلها على شريط فيديو بعد أن وقع موافقة خطية على استخدام الشريط في التدريب والتدريس ولقد أثارت الجلسات المحررة نقاشاً واسعاً لدى عرضها في مراكز التعليم الطبي.
في إنجلترا واجهت مشكلة ما يسمى بـ"اضطراب الشخصية الحدودي" Borderline Personality Disorder الذي يظهر في صورة اضطراب انفعالي ووجداني شديد مع فترات من فقدان الصلة بالواقع وهم يؤذون أنفسهم حتى يسيل الدم، وهم متمرسون في دفع المعالجين إلى اليأس. قدمت ندوة غير مسبوقة أسميتها:(الفراشات تخرج من الشرنقة) قدمت فيها أربعة مرضى (ثلاث نساء ورجل) تحدثوا إلى أطباء وممرضين وأخصائيين وآخرين عن تجربتهم في المرض النفسي، كانوا هم المحاضرين وكنا المتعلمين، عكست الدور وكانت التجربة خطيرة بكل المقاييس، أثارت حفيظة بعض الاستشاريين الكلاسيكيين لكنها كشفت كوامن لم ندر بها وساعدتنا كثيراً في فهم طبيعة هذا الاضطراب القاسي والصعب، أيضاً حرصت على أن تسجل على الفيديو ويستخدم كمادة تعليمية بموافقة المرضى بالطبع.
أجرى الحوار أ.د. محمد أحمد النابلسي - أستاذ الطب النفسي بالجامعة اللبنانية
واقرأ أيضاً:
استبياناً حول القلق والشك والصراع النفسي / التعصـب ... وفلسفة الإنكار / لا للاختــزال........لا للاحتــلال