نتفاخر نحن ـ بني البشر ـ بأننا كائنات عقلانية، وأن المنطق هو القائد لحافلة حياتنا، وأن المشاعر مجرد راكب هادئ في المقعد الخلفي، ونتباهى بقدرتنا على التفكير المنطقي، وأننا «نحكّم العقل» في قراراتنا المصيرية، لكن الحقيقة أكثر فوضوية وإحراجاً من ذلك، نحن أيها السادة كائنات عاطفية حتى النخاع، نتحرك بالمشاعر أولا، ثم نستدعي العقل متأخرا، لا ليقودنا، بل ليبرر الطريق الذي سلكناه أصلا!
العقل بالنسبة لنا هو محامٍ بارع أكثر منه قاضٍ عادل، يستيقظ بعد أن تكون المشاعر قد أصدرت حكمها، فيبدأ في صياغة المرافعات، وجمع الأدلة، وترتيب الحجج، كل ذلك ليثبت أن موكله - القلب - على حق، حتى لو كان غارقا في الخطأ حتى أذنيه!
نتخذ قراراتنا بالحب والخوف والغيرة والرغبة والحنين، ثم نطلب من العقل أن يلبسها ثوب المنطق، نغضب أولاً ثم نبحث عن أسباب «منطقية» لغضبنا، نحب أولا، ثم نخترع صفات في المحبوب تبرر هذا الحب، ونكره أولا، ثم نستحضر كل عيوب المكروه، كأننا نبحث عن صك براءة لمشاعر وُلدت قبل المحاكمة!
المنطق عند الإنسان ليس منارة تضيء الطريق، بل هو مصباح صغير نحمله خلفنا لننير آثار أقدامنا، العقل لا يسبقنا بل يلحق بنا، ولا يخطط للرحلة بل يكتب تقريرها، ولا يمنع الفوضى بل يرتبها بعد حدوثها!
تأمل كيف نختار قرارات حياتنا الكبرى، نقول إننا درسنا الخيارات بعناية، وقمنا بوزن المصالح والمفاسد، وعملنا حسبة الأرباح والخسائر، لكن الحقيقة أن قلوبنا اتخذت القرار في اللحظة الأولى، والباقي كان مجرد مسرحية نؤديها لنقنع أنفسنا والآخرين بـ«منطقية» قراراتنا، فنختار الوظيفة التي «نُحسُّ» أنها تناسبنا، ثم نبرر مميزاتها، ونشتري البيت الذي «يعجبنا» ثم نتحدث عن «موقعه المثالي»، ونتزوج من «نرتاح» له ثم نكتشف ان بيننا «توافقا فكريا»!
حتى في أكثر لحظاتنا «عقلانية»، نحن عاطفيون نتنكر في ثياب المنطق، فالعالِم الذي يدّعي الحياد العلمي يدافع عن نظريته بعاطفة الأم عن وليدها، والمفكر الذي يتحدث عن الموضوعية ينحاز لأفكاره انحياز العاشق لمعشوقته، والناقد الذي يدّعي الحياد ينحاز لما يحب دون أن يشعر، والمعلم الذي يدّعي العدل يميل للطالب الذي يذكّره بنفسه!
كلما ازددت تأملاً في البشر، ازددت قناعة أننا لسنا مخلوقات تسعى وراء الحقيقة، بل وراء الطمأنينة، فنحن نريد أن «نشعر» أننا على صواب أكثر مما نريد أن «نكون» فعلاً على صواب، فنبحث عما يؤكد قناعاتنا لا عما يهدمها، ونصادق من يشبهوننا لا من يكملوننا، ونقرأ لمن يوافقوننا لا لمن يناقضوننا، ولهذا نسخّر عقولنا لا لاكتشاف الحق، بل لحماية ما نحب أن نصدقه، وفي هذا تكمن المفارقة الكبرى للإنسان، الذي يمتلك عقلاً مذهلاً قادراً على فهم قوانين الكون، لكنه يستخدمه في خدمة قلب متقلب لا يفقه في القوانين شيئاً، فيبني بذلك ناطحات سحاب من المنطق فوق أساس من رمال العاطفة المتحركة!
لو استسلمنا لهذه الحقيقة، لما شعرنا بالحاجة للتظاهر بعقلانية مطلقة لا وجود لها، ولأدركنا أن كوننا كائنات عاطفية تفكر، لا كائنات منطقية ذات عاطفة، هو جوهر وجودنا الانساني، فنحن نحب فنبدع، ونخاف فنحتاط، ونأمل فنعمل، ونحلم فنبني، ثم يأتي العقل ليرتب هذه الطاقة ويوجهها، هذا التناغم بين القلب القائد والعقل المنظم هو ما يجعلنا بشراً متكاملين.
الحكمة ليست في إنكار هذه الطبيعة، بل في الوعي بها، فعندما نعرف أن عقولنا تخدم قلوبنا، نصبح أكثر قدرة على فحص «منطقنا» المزعوم، ونسأل أنفسنا عندها: هل هذا التبرير حقيقي أم مجرد دفاع بارع لرغبة مسبقة؟ هل هذا الرأي موضوعي أم متأثر بمشاعر لم نعترف بها؟ هذا الوعي لا يضعفنا، بل يقوينا، ويجعلنا أكثر صدقا مع أنفسنا، وأكثر قدرة على اتخاذ قرارات واعية.
العقل في النهاية شريك وفيّ للقلب، يساعده على تحقيق رغباته بأفضل طريقة ممكنة، والقلب قائد شجاع يعرف «ما يريد» قبل أن يعرف «لماذا يريده»، وبين هذا وذاك تكمن الحياة الإنسانية بكل ثرائها وتعقيداتها، فلسنا بحاجة لأن نكون آلات منطقية باردة، بل أن نكون بشرًا واعين، ندرك طبيعتنا، نحترم عواطفنا، ونستخدم عقولنا لتصويبها لا لخنقها، فبالعقل ترتقي العاطفة، وبالعاطفة.. تتأنسنُ الفكرة.
واقرأ أيضًا:
العطش.. قرب النهر! / جيل التجربة الكبرى!
