السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛
أخي مصاب بمرض نفسي اسمه مينيا واكتئاب، ويميل أكثر إلى الاكتئاب منذ 10 سنوات، حيث كان عمره 16 سنة، كان يتدرب في نادٍ لبناء العضلات لأنه كان يشكو من ضرب زملائه له في المدرسة. زرنا كل الأطباء في بلدنا، ولا توجد إلا أنواع معدودة من الأدوية هنا وجميعها لم تنفع معه.
جميع أقاربنا ابتعدوا عنا بعد مرضه (لا نزور أحدا ولا يزورنا أحد)، جميع من يعرفهم يعيِّروه بالمرض وبأننا سنرميه في المستقبل. هو لا يظهر عليه المرض أمام الناس بل يبدو أمامهم وديعا، ولكنه يعود للبيت ليصرخ فينا ويضربنا أحيانا. طبعا نحن نعامله أحسن معاملة، ولا نجرحه ولو بكلمة، وقد تمر فترات لا يخرج فيها فيتحسن قليلا (المجتمع سبب نصف مشاكله).
كان الأولاد الصغار يرمون عليه القمامة ويضحك في وجوههم، ويعود ليصرخ فينا. دائما يصرخ ويمكن أن يكسر أي شيء أمامه (منزلنا مثل الخرابة وجميع الأدوات الحادة في أماكن سرية) حتى إنه كسر يد أمي قبل ذلك، وأحيانا يبحث عن السكين لقتل أبي، هذا غير مراقبته لي ولأخواتي خاصة ونحن نيام، لدرجة أننا نتغطى بغطاء غليظ في فصل الصيف.
في إحدى السنوات كان مصابا بالوسواس حتى إنه كان يظن أن انثناءات الثياب وانثناءات الجلد الطبيعية هي تجاعيد (للنساء فقط)، وكان ينتظرني أنا وأخواتي لننام حتى يكشف عن سيقاننا، فكنا نلبس الغليظ دائما ولكن هذه الحالة قلت كثيرا في السنوات السابقة، ولكن ما زال يتفرج علينا. أحيانا يرمي بصدره على رأسي أثناء نومي فأقوم بدفعه فيصرخ بوجهي ويلكمني أحيانا ويتهمني بأني عصبية لأني أمنعه.
وضعناه مرتين في المستشفى الوحيد في بلدنا، والنتيجة أن حالته تزداد سوءا بعد خروجه (المستشفى عبارة عن سجن وضرب من الممرضين)، الأطباء هنا عادة لا يرون المريض بشكل دوري؛ بل يوقعون على الورقة المكتوب فيها الدواء، ولذلك نحن نعتبره بدون طبيب.
يوجد مستشفى خاص يمكن أن يضعه بشكل دائم تحت الملاحظة، ولكنه يكلف أكثر من 9000 دولار في السنة، وهذا فوق طاقتنا. نحن لا نعيش مثل الناس، فلا الكلام مسوح أمامه، أمي لا تخرج من البيت إلا للضرورة، نحسب حسابه قبل أي عمل فكل من في البيت خدم له، يقوم بعمل الفوضى العارمة في كل المنزل ومهما نظفنا لا يظهر.
منذ بداية مرضه حتى الآن يطلب الزواج، وهو طبعا لا يعي ما هو الزواج حتى إنه يطلب من أمي الذهاب للسوق لإحضار العروس معها في نفس اليوم، ولا يمكن أن ترفض فتقوم بالاختباء ولا يمكن إخباره بالواقع مطلقا. نكذب عليه دائما بخطيبة وهمية (لترتاح أمي من الاختباء) وبعد أشهر قد تموت أو تسافر (خطيبته الوهمية).
أخبرنا الطبيب أنه لو تزوج فإن حالته ستزداد سوءا، خاصة أنه لا يعرف شيئا عن مشاكل الحياة، فهو يتصور الحياة بسيطة جدا. عندما كنت في المدرسة الثانوية قبل 6 سنوات كان يأتي ليراقب البنات أثناء خروجهن ويتحدث مع من تتحدث معه فهو لا يمكن أن يتحدث إليهن أبدا من تلقاء نفسه؛ لأنه خجول، وكان يخبرهن باسمي. وهن يعرفن أني الفتاة القدوة ولا تجرؤ إحداهن على أن تتحدث أمامي عن هذه العلاقات. ونشروا في كل المدرسة أن أخي يلاحق البنات. أحمد الله أن لدي ثقة كبيرة بنفسي فلم أكترث بكلامهن.
المشكلة الأخرى هي أبي، فهو من النوع العصبي العنيد المتعصب لرأيه ويعتبره صحيحا وما سواه خطأ، وإن أخطأ يضع اللوم على الآخرين حتى إن علاقتنا به جافة ومبنية على الخوف. أمي على النقيض.. طيبة وحنونة وهادئة ومسكينة، هي سبب استمرار بيتنا للآن (بعد ستر الله).
العام الماضي تزوج أخي الأكبر وطبعا هو لا يعرف، فقد وضعناه في المستشفى حتى لا يعرف، والحمد لله لم يخبره أحد، لأنه لو عرف فإنه سيقتله (كان دائما يتوعده إن تزوج قبله). والحمد لله أنه يعيش خارج البلاد، فقد أنجب طفلة، وسيأتي إلى بلدنا في الأيام القادمة وزوجته موجودة هنا من شهر وأمي لم تتمكن من رؤية البنت إلا في نصف ساعة خاطفة. وأخي الكبير يريد إخباره بزواجه ولا يعي أن ذلك غير ممكن، فهو مسافر من مدة طويلة وزوجته تعرف كل شيء منذ البداية. أخي الكبير لو عاش معنا لما تجرأ أن يطلب الزواج، وكان الأمر بالنسبة لنا كالجبل على صدورنا.
ولا أحد آخر في العائلة يريد الزواج حفاظا على شعوره ولصعوبة ذلك (خاصة للبنات)، نحن لا نتحدث في هذه المواضيع مطلقا. بالنسبة لي أنا أرفض كل من يحدثني حتى دون إخبار أهلي مع أنني أشعر أن والديّ يتمنيان زواجنا لنرتاح.
هو لا يشعر بتضحياتنا من أجله، فنحن له كالمجندين؛ أعصاب مشدودة.. توتر.. قلق.. خوف. بالنسبة لي قلّت هذه الأمور عندما التزمت بالصلاة وأنواع العبادات؛ أقصد التوكل اليقيني على الله وأن الأمر كله بيد الله، فهو القادر على شفائه بكن فيكون. ويعتبرونني الأكثر احتمالا بعد أمي.
جميعنا في مراحل الدراسات العليا وهذا مما يزيد كرهه لنا، علما بأن عقله قابل للاستيعاب، ولكنه رفض الذهاب للمدرسة خوفا من زملائه، وكل سنة في مواسم الامتحانات والقبول في الجامعات تزداد حالته سوءا. وكذلك حالته لا تسمح بأن يعمل، فهو لا يحتمل سماع أي كلمة؛ بل من الممكن أن يضرب أي شخص، وقام بذلك عدة مرات حتى إن أحدهم ذهب للمستشفى.
دائما ندعو له بالشفاء في كل صلاة. نعلم أن هذا ابتلاء من الله ونحاول أن نتصبر عليه. طبعا هو لا يصلي ويسب الدين كثيرا، وأحيانا يقول كلمات مثل: أنا الله أو عيسى أو المهدي -أستغفر الله العظيم- ويقول ذلك للناس. هل يمكن أن أرسل لكم الأدوية التي أخذها وتأثيرها عليه من البداية للآن؟.
وشكرا لكم على الموقع الجميل الذي أتابعه دائما، وكثيرا ما استفدت منه في حياتي، وأدعو الله أن يجعل هذا في ميزان حسناتكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
18/1/2006
رد المستشار
الابنة العزيزة؛ أهلا بك من بلدٍ نحبه ونحبُّ أهله، ونسأل الله أن ينعم عليكم جميعا بالهدوء والاستقرار.
بدايةً لا أحسب أن حالة أخيك هي الاضطراب الوجداني الثناقطبي Bipolar I Disorder أو ما وصفته أنت بـ (مينيا واكتئاب) فقط، فالحالة كما يتضح من وصفك أكثر تركيبا وتعقيدا مما نسميه بالفصام الوجداني Schizoaffective Disorder،فليس من الممكن لأي من هؤلاء المرضى ألا يعي معنى الزواج، ولا يمكن لشابٍ في السادسة والعشرين من عمره أن يطلب من أمه شراء عروس معها في نفس اليوم من السوق إلا أن يكون ذلك على سبيل المزاح!.
لم تخبرينا عن مستوى تعليم أخيك؟ ولا أدري هل معنى أنه رفض الذهاب إلى المدرسة أنه لم يلتحق أصلا بالتعليم أم أنه اكتفى بقدر متوسط من التعليم؟ عرفنا أنه لا يعمل لأنه لا يتحمل التوجيه والإرشاد، ويبدو أنكم لم تحاولوا أو لم تجدوا مكانا يسمح بتأهيله أو مدرسة خاصة ربما، فنحن نحتاج إلى معرفة معامل ذكائه قبل كل استطراد حول احتمالات التشخيص الفارق، وقد يكون معامل ذكائه أقل قليلا من الطبيعي وهي فئة تكثرُ فيها الاضطرابات النفسية مثلما تكثر في أصحاب معاملات الذكاء المرتفعة.
المهم أن وصفك لحالته في إفادتك (كذلك حالته لا تسمح بأن يعمل فهو لا يحتمل سماع أي كلمة بل من الممكن أن يضرب أي شخص، وقام بذلك عدة مرات حتى إن أحدهم ذهب للمستشفى)، هذا يعني أننا نتعامل مع حالة هي على الأقل فصام Schizophrenic Disorder، والأغلب أنها أعراض ذهانية Psychotic Symptoms ظهرت عليه إضافة إلى نقص معامل الذكاء، والأخير موجود منذ طفولته كما يفهم من وصفك لتعامل الأطفال معه وهو صغير.
وإن صح أنها حالة أعراض ذهانية مع نقص في معامل الذكاء، فإن الأمور أيضًا قابلة -إن شاء الله- للتحسن، إلا أن علاجه يحتاج إلى تعاون بين فريق من المعالجين بينهم طبيب نفسي وأخصائي نفسي مدرب، وتعاون كامل من الأسرة، فطريقتك حتى الآن ما هي إلا احتواء مستمر وحمائية زائدة Over-protectiveness وتضحيات لا نهاية لها، وهو مع الأسف غير قادر على التعبير عن الامتنان لكم، ولا فهم أن ما تفعلونه يساعده على التحسن.
كذلك فإن قصور الخدمات الطبية النفسية واضح، وإن كنت لا أحسب هذا منطبقا على العقاقير المتاحة، فصحيح أن لدينا في مصر مثلما لديكم في بلدكم نقصا في عدد الأطباء النفسيين المتخصصين وفي عدد الأخصائيين النفسيين المدربين، ولدينا مثلما لديكم سوء إدارة وسوء معاملة من العاملين بالمستشفيات والمصحات كالممرضين وغيرهم، وأسباب هذا عديدة، من أهمها نقص التدريب ونقص الوعي الديني والثقافي، وهذا حال المؤسسات التابعة للحكومات في معظم بلداننا.
لكنني لا أظن أن هناك نقصا عندنا أو عندكم في أنواع العقاقير المتاحة، ولعلها فقط مسألة نقص العقاقير العلاجية رخيصة الثمن؛ حيث بدأت تختفي من الأسواق في الآونة الأخيرة لصالح العقاقير الحديثة باهظة الثمن، ولعل طبيبه النفسي مشفق عليكم من كتابة عقاقير أغلى ثمنا وذات تأثير يقارب تأثير العقار التقليدي إلى حد كبير.
كذلك لا يمكن أن تكون طريقتكم في التعامل معه بالاختفاء منه والإخفاء عليه بشكل يومي طريقة صحيحة، خاصة أننا لا نستطيع توقع رد فعله حين يكتشف أنكم كنتم تضللونه، وخاصة أنه أحيانا يعبر عما نسميه "أفكار وهامية" وأحيانا ربما "أفكار تسلطية" حتى إنه كما جاء في إفادتك (يسب الدين كثيرا، وأحيانا يقول كلمات مثل: أنا الله أو عيسى أو المهدي)، فهذا يعني أعراضا ذهانية نشطة، ويعني أن بقاءه دون علاج في البيت أمر غير مقبول!.
أيا كانت الظروف يا ابنتي فلا بد من علاجه، وإذا انتظم على العلاج ولو لفترة بسيطة في المستشفى الخاص تحت إشراف طبيب نفسي متخصص فلا أحسبه -إن توفر له البقاء في المصحة النفسية الخاصة شهرا أو على الأكثر شهرين- سيكون مقاوما للتحسن، وحتى لو اضطررنا لتكرار ذلك بسبب انخفاض معدل ذكائه إنْ صدق حدسي، حتى لو اضطررتم لذلك فإن الوضع سيكون أفضل.
ولا أحسب إرسال أسماء الأدوية سيفيد كثيرا؛ لأننا لا نستطيع تشخيص الحالة عبر الإنترنت، وأيضًا لأن أسماء الأدوية تختلف من بلد لآخر، فقط استخيروا ربكم وافعلوا ما نصحتكم به.
وتابعوني بالتطورات الطيبة، بمشيئة الله.
ويتبع>>>>>>>> : قصور الخدمات النفسية ومعاناة الأسر م