من عالم الموتى ...استغاثة
R03;
لا أعلم من أين أبدأ من البداية أم من النهاية لأني لا أعلم حاليا أين أقف، هل أنا في منتصف الطريق، أم في نهايته؟! تتشابه الأزمنة وتتطابق الأماكن ويختلط علي كل الأمور، فالوصف الأدق لحالي عالقة في النفق... نفق مظلم جدا جدا جدا لا تميز فيه الليل عن النهار، لا تشرق هنا الشمس ولا يخرج القمر، فقط نسيج الظلام الحالك يملأ المكان تلتف جدران المكان حولي واختنق بها ولا أستطيع مغادرة المكان.
تجول الشياطين وتتراقص في المكان تضحك وتشاركني السوداوية التي أتخبط بها منذ سنين، تملأ رأسي بأفكار سوداوية، كل هذا في المكان الذي لم أغادره منذ سنوات؟؟؟ غرفتي... مقبرتي...
من أين أبدأ حكايتي بدأت، ككل الحكايات، بنت ككل البنات، أبي المثقف صديقي -هذا على الأقل ما أظن-، أمي حبيبتي -هذا ما كنت أظن أيضا-، أمي ... عائلتي الكبيرة، الصخرة الصلبة التي أحتمي بها من أعاصير الدنيا، لوهلة بدت الحياة جميلة رغم صعوباتها، لكن هناك من يتربص بي القدر.
القدر وبكل قسوة كال لي اليأس وساق لي المعاناة وأذاقني الألم، من زيجة سابقة أنجبت طفلي الوحيد -بعد هجران زوجي السابق لي- وكم الألم والضرر الذي ساقه وأذاقه لي، كان طفلي ملاذي الجديد والقشة التي جعلتني راغبة بالدنيا، آمالي وأحلامي تعلقت بطفلي، عملت بجد من اجله، كان عائلتي, عائلة مصغرة سعيدة وبامتياز.
اعترض الجميع على تمسكي بطفلي لكني تمسكت به تشبثت به ولم يحتمل قلبي إلقاء ولدي لزوجة أبيه، بدأنا حياة جديدة أنا وهو، أنا وهو ويكفي لم يحاول والده حتى معرفة أخباره، قطعنا خمس سنين من العمر من التعب اللذيذ، خمس سنين يوم بيوم حضنته وأمنت له كل ما يريد. كبر الصغير وكبر حبه وتعلقي به، وأصبح كل ما لدي، أصبح قطعة مني وبل جزء من روحي، إن غط في نوم عميق أشتاق له وهو بين ذراعي نائم، وجه كالقمر، وعيون واسعة ودافئة، وبشرة كلون الثلج، وشفاه بلون الكرز، وتنسدل خصلات شعره الذهبية لتغطي وجهه، ملك كريم يقطن بجواري يحلي حياتي ويتعب قلبي من قلقي عليه واجتهادي في تربيته وإبقاء ابتسامة كبيرة تليق بوجهه الملائكي.
لم أفارقه يوما، نتنفس نفس الهواء، وأستمع لدقات قلبه تنبض بالحياة، حياته التي بدأت يوما ما بالنبض داخلي. لأن الطلاق حدث مبكرا جدا إذ انتهت حياتي الزوجية ولم تصمد سوى سنة واحدة أو أقل، دق الكثيرون بابي، وظهرت في الأفق الكثير من الفرص لبناء أسرة جديدة، لكن قناعتي كانت بوهب حياتي لطفلي والتي لم يعجب أحد ذلك، وكلما فتح موضوع الزواج أنهيه بالرفض القاطع، فحياتي وقراراتي ملك خاص بي، ولم يستطع أحد إقناعي. والحقيقة قلبي لا يتسع سوى لولدي وليس من متسع لأحد سواه.
جاء خاطب جديد، الذي يعتقد الجميع بأنه الأفضل لي، رفضت، لكن إصرار الجميع ذهلني، لكني كنت ساذجة لدرجة كبيرة، غافلة لدرجة غير معقولة، توجهت لعملي في ذلك اليوم الأسود ورجعت كعادتي متلهفة للقاء طفلي الوحيد، لكني لم أجده. اتصلت عائلتي بطليقي وسلمته طفلي بحجة أن هذا الأفضل لي ولمستقبلي، هول المفاجأة، لا لا أصدق أي مستقبل.
بدأت بالصراخ أين طفلي، بدأت أتهدد، أتوعد، وحاولت أن أعرف أين ذهبوا بطفلي، لا تزعجي نفسك توجهوا للمطار سيقيم حيث يقيم والده، الأمر كالصاعقة، فجعت بالخبر، ولا أدري أبكي أم أصرخ أم أغضب، بدأت بالصراخ بجنون وحملت لداخل غرفتي بالإكراه، وبدأ أبي يتوعد إن لم أهدا سيفعل ويفعل وفي لحظة ما لم أعد قادرة حتى الصراخ ولا حتى البكاء أردت كسر الباب اللعين لألحق طفلي الوحيد، حطمت ما وجدت بطريقي، كسرت، صرخت، شتمت، لكن ليس لي حول ولا قوة، لم أقوى على اللحاق به، لم يتسنى لي مشاهدته أو حضنه أو حتى اختلاس النظر له، تبخر فجأة وهول ذلك دفعني للجنون, وأنا ضعيفة.
الدنيا اسودت وبدت الدنيا تافه وانهار كل شيء في تلك الساعة، كسرت كاس ماء وقطعت شرايين يدي لأني أريد الموت، أردت الموت بسهولة لأجنب نفسي كم الألم الذي يسكن جسدي ويوهن قواي ويبدد أنفاسي لكني لم أمت، ولا أذكر سوى استيقاظي في المشفى وحولي أمي وأبي، لا تدرك صعوبة ذكر أو كتابة عن ما حدث.
بعد رجوعي للبيت عوملت كمختلة عقليا تماما، تركت عملي، دراستي، لا أعلم شيء واحد عن طفلي، قطعت علاقتي بكل من أعرف، لم أكلم أبي وأمي منذ تلك الحادثة، لم يعلما بأن ردة فعلي ستكون بذلك العنف، حكمت على نفسي بالموت البطيء، بدأت بنتف شعري ثم أقصه، أجرح نفسي وخاصة رأسي بدبوس صغير، أرتاح لنزف دمي ليصل وجهي ويغطي ملامحي.
تذرف أمي دموعها لسوء المنقلب الذي وصلت إليه وأتمنى أن تتألم كما أتألم، حاول أبي مرارا جري للحديث والخروج من غرفتي لكني اعتصمت بها، وبلغ بي اليأس لأحدث المجهول واكتب لك ما ألت إليه أموري، لا الموت قادم ليريحني وما من أفق في الدنيا، لا أستطيع حتى النظر لأبي ولا لأمي، أكرهما، أمقتهما، أتمنى أن يتذوقا الكأس الذي شربته مرارا وتكرارا بسببهما.
لا أدري ما أحوال ولدي، أهو بخير أم لا؟ لم يذكره أحد ولا يسمحون لي حتى بمحاولة معرفة أخباره، يكبر ولدي في بيت آخر بعيد عني، لا أدري أيأكل جيدا، أيشرب؟ أيدرس ويذاكر؟ هل يقرءون له قصة قبل النوم، هل يلاعبونه؟ هل يحضرون له طعامه المفضل؟ هل يحتفلون بعيد ميلاده؟ هل يحضنونه؟ هل يلبسونه أفضل الثياب؟ هل يقبلونه؟ هل يحبونه كما أحب؟ هل يحتفلون به كما كنت أحتفل لوجوده فقط في حياتي؟ هل يتلهفون للقائه عندما ينام وينتظرون استيقاظه على أحر من الجمر؟ هل يشكرون السماء كل يوم لهبة مثل ولدي محمد -نعم سميته محمد-.
في يوم كنت إنسانة ذات إيمان، لكني فقدت حتى الإيمان، تعاقبني السماء وتبتليني ولم أكن يوما أستحق ذلك؟ أم لربما أستحق؟ لماذا على ولدي أن يفقد الأم؟ لم عليه العيش في بيت رجل قاس بارد؟ لم يسأل عنه يوما؟ لم عليه افتقاد أمه كل يوم وثانية؟ لماذا قسوة القلب يا أمي، هل كنت لتلقي بي لقارعة الطريق؟ لماذا يا أبي؟ هل كان ولدي ثقيلا عليكم؟ لم أقبل مساعدة منهم، تحملت عبء تربيته لوحدي، تبقى حجتهم المزيفة، مستقبلك؟ أي مستقبل لعين؟ زواج من جديد وهجر وطفل لأسرة مفككة، يخطف من والدته ويرمى لرجل لا يعرف عن الأبوة شيء؟ وتجن الأم وتبدأ في رثاء حالها؟ وبل تحادث غريبا مثلك ولا تدري، أيمكن أن ترد وتجد الحل لمعضلتها وهي موقنة بانعدام الأمل، ويعتقدون بأن مستقبلي الباهر ينتظرني؟؟؟؟؟
وصلت للحضيض ولا أعتقد بأن هناك ما هو أسوأ من هذا؟ ما زلت أتألم وما زال خروجي ممنوعا من البيت وما زلت أرفض قطعيا، أرفض الذهاب لطبيب ما، لا تعلم كم الألم الرابض في قلبي، لا تدري قيمة احتقاري لنفسي لأني إنسانة انهزمت بسرعة وتركتهم يعبثون بحياتي وبحياة طفلي. لا أعرف النوم، فقدت الاهتمام بأي شيء، لا أقوى حتى على القيام من سريري، أريد شيء واحد، أريد طفلي ولكني بدل الخروج من النفق المظلم والوقوف من جديد واسترداد طفلي، قبعت هنا لأتعفن هنا لوحدي؟ أريد النهوض من جديد، أريد استعادة طفلي، وهذا أخر طلب لي في الدنيا؟؟؟ هل هذا كثير؟
21/06/2012
رد المستشار
على قدر صعوبة المشاكل التي نواجهها كأطباء نفسانيين يوميا، إلا أن من حين لآخر تعلق في ذهننا حكاية قاسية, تؤلمنا تماما مثل الشخص المصاب بها، وأنا شخصيا تواجهني تلك المشكلة مع الحالات التي تعكس ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، في تلك الحالات أقف أمام نفسي عاجزة.
لقد تأثرت جدا بمشكلتك يا صديقتي، بلا جدال لو تكلمت عن التقييم النفسي لحالتك, فهي حالة شخص انتحاري بامتياز، حتى اختيارك لألفاظك (أعجبني أسلوبك جدا رغم قتامته, فيه حس فني ويعكس ثقافة عالية)، ولكن ألفاظك قاتمة كرؤيتك لحياتك.
بلا جدال أنك قد ظلمت، مرة واثنتان وثلاثة، ظلمت كفتاة كانت تحلم بالحياة, فواجهت الطلاق وهي لا تزال في مقتبل الحياة، ثم ظلمت ثانية حين واجهت الحياة كأم وحيدة، بكل ما في هذا الوضع من عذاب واستضعاف ووحدة وضغط مادي ومعنوي، ثم ظلمت ثالثة حين انتزع ابنك منك بتلك الطريقة القاسية الغادرة, التي لا أجد مبررا لها إلا رغبة أهلك في تزويجك اعتقادا منهم أن ذلك الطفل المسكين هو من يقف في طريقك.
أكرر لا مبرر لها وليس من حقهم إطلاقا انتزاع طفل من أمه لتحد عليه وتقاسى فراقه وهو على ظهر الحياة، ولم؟؟ لتمارس الجنس مجددا مع رجل آخر (عذرا على قسوة التعبير).
يا صديقتي صدقيني أنا أشعر بألمك، ماذا كانوا يتوقعون وقد كان طفلك هو كل حياتك؟ هو مبررك لاحتمال قسوة الدنيا ولاحتفاظك بعقلك ولنهوضك من الفراش كل يوم لمواجهة يوم جديد؟؟ ماذا كانوا يتوقعون؟؟ "ستبكي قليلا ثم تسكت؟؟" ويل للقاسية قلوبهم، لا أستغرب أبدا إقدامك على الانتحار في تلك الظروف, وإن كنت لا أوافقك عليه.
أنا أتفهم إحساسك بأن الحياة قد انتهت, وبأن المبرر الوحيد للاستمرار قد انتفى, ولكن يا صديقتي, إن القطة لا تتخلى عن أولادها قط بل وفي حالة الخوف الشديد تأكلهم وكأنها بصورة غريزية تحاول إرجاعهم إلى الأمان بداخلها، ولكن سبحان الله اليأس هو اختراع إنساني، أنا مجددا أتفهم لحظة الجنون المؤقت التي مررت بها وكذا اليأس الأسود الذي ملأك ساعتها، ولكن يا صديقتي قاتلي قاتلي بالله عليك.
قاتلي يا حبيبتي، ليس هذا إلا اختبار جديد ستمرين منه أقوى مجددا وقد غسلتك دموع الأحزان من خطاياك، ولكن بالله عليك قاتلي لأجل ذلك الطفل الذي كنت أنت مأواه وجنته.... لم تعد المشكلة فيك, بل في طفل صغير نزعوا عنه أمانه, ولو كنت مكانك لقاتلت في ضراوة, كقطة كلبؤة كإنسانة انتزعوا عنها معنى الوجود، لم يمت طفلك فتحتسبينه, بل خطف غدرا، اذهبي للبوليس, اذهبي لوالده وتوسلي لاستعادته, وإن استلزم ذلك أن تقفي أمام أهلك, فإن الحب للأسف أحيانا ما يصبح غبيا وخانقا، أولويتك اليوم طفلك، فانتزعي نفسك من أحزانك وقاتلي، قاتلي وسأدعو لك الله....
والسلام
واقرئي على مجانين:
التعلق Attachment
الولادة وما بعدها والتفاعل بين الأهل والرضيع
ويتبع >>>>>>>>>: شجاعة الحياة.. سجينة الحياة.. م
التعليق: حكاية قاسية جدا جدا ... وليس من حل سوى ما تكرمت به المستشارة الفاضلة _ حان الوقت لإسترداد طفلك سيدتي
أتمنى من كل قلبي أن يجمعك الله به وأن لا يحرمك إياه أبدا
آمين يا رب آمين يا رب آمين يا رب
يا رب