هل سبق أن وجدت نفسك تقول "نعم" لطلب ما، وأنت في أعماقك تصرخ "لا"؟ هل مررت بتلك اللحظة المحرجة حين تشعر أن كل من حولك يأخذ منك، بينما أنت تبتسم وتتظاهر بأن كل شيء على ما يرام؟ ربما تحدث لك هذه التجربة أكثر مما تعتقد، فتجد نفسك دائمًا الشخص الذي يُلجأ إليه في الأزمات، والذي يُطلب منه المساعدة في كل وقت، وأنت تستجيب دومًا لأنك تؤمن أن العطاء فضيلة، وأن مساعدة الآخرين واجب إنساني، وهذا صحيح تمامًا، لكن ماذا لو قلت لك إن العطاء نفسه يمكن أن يتحول إلى نوع من الاستنزاف المدمر لروحك وطاقتك؟! المشكلة تبدأ حين نخلط بين العطاء الصحي والعطاء القهري، فالأول ينبع من الحب والرغبة الحقيقية في المساعدة، أما الثاني فهو ذلك الذي نقوم به خوفًا من رفض الآخرين، أو رغبة في أن نبدو أشخاصًا طيبين، أو حتى هروبًا من الشعور بالذنب، وفي هذه الحالة، لا نعطي من فائضنا، بل نعطي، عادة، من احتياجاتنا الأساسية!
كم منا يجد نفسه متاحًا دائما للآخرين، فيقول "نعم" لكل طلب، ويلبي كل حاجة، حتى لو كان ذلك على حساب راحته وطاقته؟ فنصبح كالآلة التي تعطي باستمرار دون أن تأخذ وقتًا للصيانة، ونتساءل لماذا نشعر بالإرهاق والفراغ رغم أننا "نفعل الخير"! المفارقة أن الكثير من الأشخاص من حولنا قد لا يقدرون عطاءنا حقًا، بل يعتبرونه أمرًا مفروغًا منه، وكلما أعطينا أكثر، كلما طلبوا أكثر، وكأن عطاءنا فتح شهيتهم للمزيد، وهكذا ندخل في دائرة مفرغة، فنعطي كي لا نخسر حبهم، وهم يأخذون لأننا متاحون دائمًا! الحقيقة المؤلمة أن العطاء المستمر دون حدود لا يصنع علاقات صحية، بل يخلق علاقات غير متوازنة، حيث يعتاد الآخرون على دورك كـ "المنقذ" في كل أزمة، وأنت تعتاد على أن تكون مصدر الحلول لمشاكل ليست مشاكلك أصلًا،
وبهذا تحرم نفسك من حق الراحة، وتحرم الآخرين من فرصة النمو وتحمل المسؤولية. أن تقول "لا" أحيانًا ليس أنانية، بل هو نوع من الحكمة والرفق بنفسك وبالآخرين، فحين ترفض طلبًا لا تستطيع تلبيته دون أن تؤذي نفسك، فأنت تعلم الآخرين احترام حدودك، وتعلم نفسك أن قيمتك لا تُقاس بمقدار ما تعطيه. العطاء الحقيقي يأتي من الامتلاء، لا من الفراغ، ومن يعطي وهو مستنزف لا يقدم هدية، بل يمرر عبئًا، فأنت لا تستطيع أن تسقي الآخرين من بئر جافة، ولا يمكنك أن تضيء طريق غيرك وأنت تعيش في الظلام. ربما الوقت قد حان لتتعلم فن قول "لا" بلطف، وأن تدرك أن حدودك ليست أنانية، بل ضرورة إنسانية، وحين تجد التوازن بين العطاء والحفاظ على نفسك، ستكتشف أن عطاءك أصبح أكثر صدقًا وأعمق أثرًا.
واقرأ أيضًا:
الذكاء العاطفي.. حين يصبح عبئاً! / متلازمة.. سأبدأ غداً