السرّاطون مشتقة من سرط يسرط أي بلع يبلع.
وفي حقيقة معناها أن تبلع الشيء من غير مضغه.
وتستخدم في لغتنا العامية في بعض المدن، فيقولون "سرط الطعام" أو "أنه يسرط" وهو تعبير عن النهم وعدم التورع والهدوء في تناول الطعام، وفي كثير من الأحيان تعبر عن الجشع والمغالبة في الأكل، خصوصا في الولائم الكبيرة.
وغالبا ما يصاب السراطون بعسر الهضم والتخمة، وبعضهم يختنق ويموت، وبعضهم يهرع إلى الماء لتسهيل انزلاق ما سرطه من الطعام وحشا به مريئه.
وكثيرا ما كنا نسمع أن فلان قد إختنق بطعامه ومات، وذلك لأنه يسرط الطعام سرطا ولا يمضغه مضغا ويبلعه بسرعة وانفعال، مما يتسبب باضطراب تقلصات مريئه وتشوش عملية البلع فيذهب الطعام إلى قصبته الهوائية بدلا من مريئه فيختنق ويموت.
ويبدو أن الذي يسرط الطعام يكون منفعلا ومتسرعا ومتحفزا، مما يجعل غدده الصماء تفرز هرموناتها بطريقة مسعورة تؤثر على قدرات وعيه وتفكيره، وتذهب به إلى التراب بسبب هذا الاستنفار اللامبرر إلا بعاهة النهم المفلوت.
وفي عالم البهائم التي تسرط طعامها سريعا مغالبة مع البهائم الأخرى حتى تقضي عليه فتستريح لوحدها وتأخذ باجترار ما التهمته. والاجترار أن تسترجع الطعام إلى الفم مرة أخرى من المعدة، ويتم مضغه جيدا وابتلاعه بهدوء لتتحقق الفائدة منه.
وقد تصاب البهيمة بأوجاع شديدة لأنها التهمت علفها من الحنطة والشعير التهاما مسعورا وملأت معدتها حتى أقصاها فراحت تتلوى من الآلام، وربما تموت لأنها فقدت قدرتها على الاجترار والمضغ بعد أن فقدت معدتها قابلية التقلص والانبساط بسبب الامتلاء الشديد.
والبشر لا يمكنه أن يجتر طعامه لأنه سيحرق بلعومه ويؤذي مريئه، لأن الطعام حالما يحل في معدته فإنه يتعرض لإفرازات حامضية قوية لا يمكن لأي عضو في جسمه أن يتحملها سوى معدته التي لا تنهضم بهذه الحوامض ولا تحترق، لكنها تحرق المريء والبلعوم إن أصابتهما، ومن هنا فإن الاجترار البشري غير ممكن لكن البهائم يمكنها أن تجتر.
وبعض البشر يسرط الأشياء وينسى أن عليه أن يمضغ ولا يمكنه أن يجتر ما يسرط.
والسرط في عالم البشر قد تجاوز الطعام إلى غير ذلك من الأشياء والممتلكات.
فترانا أمام بشر يسرط أموالا كبيرة من الناس وممتلكات منقولة وغير منقولة وبسرعة مذهلة ونهم غريب.
ولا بد للبشر أن يجلس على كرسي القوة لكي يكون سراطا ماهرا، فيتمكن من سرط ما يحلو له من الآخرين.
فتراه حالما يلامس كرسيه تنطلق غرائزه المخبوءة، فيأخذ بسرط الأموال والممتلكات ويفتح له حسابات في بنوك الدنيا لكي يضع فيها ما تطاله يداه من حقوق الناس.
وبعد ذلك يصاب بالتخمة ويقرر أن يسرط البشر، ويكون ذلك بالقتل والاغتيالات وتلفيق التهم وإلقائهم في السجون وتهديدهم وتشريدهم، ومحاربة كل رأي وقوة لا تتفق وفلسفة السرط العلني والمستور إلى حين.
فترى أناسا تكرموا بالكراسي لبضعة أشهر وإذا بهم يعيشون في حالة بذخ وترف ويركبون أرقى السيارات الفارهة، ويتبخترون في الأرض وما سأل أي منهم كيف تحولت في بضعة أشهر من معتمد على المعونات إلى هذا الحال الفائق الثراء.
لا يمكنه أن يقول ذلك لأنه لا يستطيع أن يجتر، وأنه مصاب بداء السرط الذي أطلق كل هرمونات الشراهة وسكبها بغزارة في دمه، فأذهب صوابه وفجر لذائذ تحقيق رغباته المسعورة التي لا تعرف إلا أن تسرط.
إن مشكلة الأوطان أن يعاقر كراسي القوة فيها السراطون، الذين لا يعرفون سوى السرط ولا يفهمون بشيء سوى ذلك.
فالوطن عندهم جيوبهم.
وهو في عرفهم مجرد كلمات يطلقونها ليلهو الناس بها، ويبعدونهم عن إعاقة سرطهم لكل ما يمكنهم أن يغتنموه ويقتربوا منه.
هؤلاء لا ينفعون الأوطان، لأن فكرهم محدود وعقلهم مربوط بغريزة النهم واللذة على حساب كل شيء، وفيهم أنانية مروعة ونوازع مؤذية، ويقرون بالافتراس والتدمير والقتل والاستحواذ على مقدرات الآخرين من غير مسوغ قانوني أو حق شرعي، سوى أن قدراتهم السرطية وجدت أنها قادرة على السرط الشديد.
إنهم تماسيح هائجة تسعى بيننا وتقضي على كل حي عندنا.
إنهم كاسحات حياة، الحيتان أرحم منهم ولا يصلون إلى أخلاق الذئاب أو الكواسر التي تسرط الطعام لأنها جائعة وتحتاجه.
أما هؤلاء فلا يحتاجون ما يسرطونه، بل يفعلون ذلك حبا في الامتلاك وحرمان الآخرين مما عندهم، وحتى من حياتهم إذا اقتضى الأمر.
والسرط ليس أسلوبا فرديا فحسب بل دولي أيضا، فترى دولا كبيرة تسرط دولا صغيرة، وامبراطوريات مغيرة على أوطان فتسرطها وتقضي على ما فيها، وتدفع بأهلها إلى أن يكونوا أعداءا لبعضهم البعض، وهي مشغولة في الهضم والتمثيل الغذائي، وتحويل المواد المسروطة إلى طاقات امبراطورية مفيدة.
وأي وطن يتحقق سرطه يتم حرقه بالعديد من الحوامض والإفرازات الهضمية، ومن ثم طرحه في العراء ليكون عرضة للديدان والحيوانات الضارة، التي تتسبب في المزيد من الهلاك والثبور له.
الأوطان المسروطة في الأرض تعاني الأمرين، لأنها تحت رحمة عمليات الهضم البطيء والسريع، والهضم يعني أن تتفتت عناصر الأوطان وتتمزق وتهرس وتتحول إلى قديد، يسهل للعصارات الهضمية الأخرى أن تصل إلى أجزائه فتعيث بها خرابا وفتكا، وتأخذ منها ما تريد من الطاقات وتلفظ الباقي وتدفعه إلى حيث لا يرغب به أحد.
الأوطان تُسرَط وتُهضم بتوفير أعداد غفيرة من السراطين من أهل الوطن، لكي يعينوا السارط على تسهيل مهمة السرط. أي أن سرط الأوطان يحتاج إلى عوامل مساعدة تسرّع التفاعلات الكيماوية اللازمة للإتلاف والهضم والتمثيل. وهكذا ترى في كل وطن مسروط ما لا يحصى من السراطين الفخورين بمهمتهم ودورهم السرطي الفظيع.
الأوطان المسروطة لا يمكنها أن تحافظ على وحدتها وتماسكها الاجتماعي، لأنها تحت ضغط العوامل الناجمة عن السرط، فهو ليس عملية واحدة بل بداية لعمليات هضمية معقدة، تمتد لزمن يتناسب وحجم الشيء المسروط ودرجة يسر أو عسر هضمه.
بعض الأوطان العسيرة على الهضم بعد سرطها تحتاج إلى الاستعانة بالعديد من القدرات الإضافية لكي تتفتت وتهضم. وأعظم القدرات التي يمكنها أن تجعل عملية هضم الأوطان سهلة هو توفير أعداد غفيرة من السراطين من أبناء البلد المسروط.
نعم لا يمكن لوطن يسكن في معدة أن يحافظ على تماسكه ووحدته، لأن قدرته على مقاومة السيل الهائل من الأحماض المِعدية والإفرازات الهضمية الأخرى، تصيبه بالاضطراب والتشوش وتبعد الوطن عن رؤية نفسه، لأن الأحماض تعمي العيون وتحرق البؤبؤ وتأكل قدرة البصر والتبصر، فينطلق أبناؤه في حركة مضطربة لأنهم يعيشون في حالة إعماءٍ هضمي، وتحت معصرة معدة السارطين الذين ينهالون على جسد الوطن بكل قدراتهم السحقية والتفتيتية، فبدون ذلك يتحول السرط إلى معضلة قد تقضي على السارط وتصيبه بأمراض وخيمة، وقد تحصل التخمة الشديدة أو يتحقق انطلاق الإفرازات الحمضية إلى بلعوم ومريء السارط فيصاب بآلام مبرحة، أو قد تذهب هذه الإفرازات إلى القصبة الهوائية فتحرقها، وتصيب السارط بالاختناق وبعسر التنفس.
إن مشكلة سرط الأوطان قد تكون سهلة إذا أصبح الهضم يسيرا، لكنها تتحول إلى داء مزمن ومؤذي للسارط عندما يكون هضمها عسيرا، وعندما تعجز الحوامض المِعدية والإفرازات الهضمية على تفتيتها وتقديدها، وتعريض كل أجزائها لسطوة الحوامض.
ولهذا تجد بعض الأوطان السارطة للأوطان تعاني من عسر هضمها، ومن آثار جانبية ومضاعفات شديدة وقاسية تكلفها الكثير من العلاجات والأدوية التي لا تنفع إلا لوقت ما.
وهكذا يبدو أن للسرط عواقبه وأنه منهج غير حضاري، وأن السارط لا بد له أن يكون قادرا على الاجترار لكي يهنأ بما يسرط، وإلا فإنه سيقضي على نفسه بما سرط.
ونحن البشر أفرادا وأوطانا لا يمكننا أن نسرط، بل أن علينا أن نمضغ ونتحسس طعم ما في أفواهنا ونقرر بعد ذلك البلع، فلا يمكننا أن نبلع ما هو مر كالعلقم أو ساخن، لكننا يمكننا أن نسرط ذلك إذا وضعناه في غلاف ما كما نضع الدواء ونسرطه لكي لا نتحسس طعمه المزعج.
وسرط الأوطان لا يمكنه أن يكون دواء، وإنما هو بيت الداء وأصله ومصدر الاضطرابات التي تحيق بالوطن السارط له.
وكذلك الأفراد الذين يسرطون أموال الناس وممتلكاتهم ويتنعمون بكراسي القوة والسلطة، ويحسبون أن أفواه الكراسي لا بد لها أن تعب عبا، لكي يكون الجالس عليها صاحب قيمة وشأن ودور في حياة أبناء الشعب المساكين.
وهكذا فعلينا أن نتذكر دائما بأننا نمتلك فما فيه أسنان ولسان، ولا يمكننا أن نتخطى وظائفهما ونسرط الأشياء سرطا، ونحسب أننا قد حققنا فوزا وتمكنا مما سرطنا.
أسرطوا فيها كثيرا
يقتل السرط كبيرا
إنه داءٌ وخيم
يجعل الشر وفيرا
تحسبوا هذا مفيدا
يجلب السرط عسيرا
فاستفيقوا من بلاءٍ
واذكروا الله القديرا
واقرأ أيضا:
تأريخنا وجهلنا !! / ما كان لن يكون!!