التأريخ المدوّن لا يعني أنه يكتسب الصوابية التامة، وينقل الأحداث والوقائع كما حصلت، بل أنها مكتوبة وفقا لآلية النقل المتواترة، وبأسلوب اتخاذ الموقف تجاهها، ولتأثيرات الكراسي الدور الكبير في صناعتها.
ولهذا فالاقتراب منها يستوجب العلمية والموضوعية، والتمحيص الدقيق اللازم لاستخراج ما فيها من حقائق وفقا لمكانها وزمانها.
وقد فطن العلامة ابن خلدون (1332 - 1406) إلى ذلك وذكره في مقدمته المعروفة.
ويمكن مقارنة ما في كتب التأريخ بما يدور في وسائل الإعلام المعاصرة، إذ تجد كل وسيلة تقول ما تريده حول حدث ما أو تطور حصل هنا وهناك، وبسبب تضارب الأقوال والتصريحا يختلط الأمر على المتابع ولا يعرف ما حصل بالفعل.
وتاريخنا المسطور لا يبتعد كثيرا عن هذا الأسلوب، فما تضمه الكتب فيه الكثير مما لا يقبله العقل، ولا يتوافق مع طبائع السلوك، وهو تأريخ أشخاص تم تقديسهم وإخراجهم من بشريتهم، واعتبار ما فعلوه أشبه بأحلام اليقظة والخيالات العالية.
وبتقدم الزمان وإبتعاد الكاتب عن الحالة التي يتناولها، يأخذ بالكتابة المحلقة في فضاءات لا علاقة لها بالذي يتناوله كواقع ووقائع، فيدوّن تصوراته ورؤاه الساقطة على الموضوع.
فالكاتب لا يصوِّر بصدق ما يرى، بل كما بدى له، فالمكتوب رأي الكاتب، وما انعكس فيه من الحدث الذي يتصدى له ويقترب منه بعيون الإدراك والمعنى.
والذي يحاول أن يؤرخ الأيام التي يعيشها، يدرك بأنه لا يصور بل يسقط ما أثّر منها فيه، فهو يكتب انطباعاته عن الأحداث، وإن ذكرها فلم ينقلها على حقيقتها، ولا يمكن للكتابة أن تكون وسيلة لنقل الحقيقة وكذلك الإعلام، وإن ادّعى ذلك ألف مرة ومرة، لأن ما يطلقه يتوافق مع التوجهات والتطلعات.
فالتأريخ بحاجة لتمحيص واقترابات علمية منهجية ذات قيمة معرفية، وفقا لآليات ابن خلدون في قراءته وتنقيته من الغث، الذي يتنافى مع المنطق والنظر العقلاني السليم.
فهل لنا أن نرى بعيون العقل؟!!
اقرأ أيضاً:
الأقلام الجريئة!! / الانطفائية!!