هناك لحظة في منتصف العمر تأتي كالصفعة الهادئة، حين يستيقظ المرء ذات صباح فيكتشف أنه كان نائما طوال رحلة حياته، وأن يديه لم تكونا على المقود أبدا، وأن حياته كانت تسير على وضع الـ«Autopilot» دون أن يدري!
نظام الطيار الآلي هذا لا يركبه أحد عن قصد، بل يتسلل إلى حياتنا كاللص الماهر، يبدأ بالروتين المريح، بجملة «سأفعل ذلك غدا»، بالقرارات المؤجلة التي تصبح مع الوقت قرارات منسية، بالأحلام التي تنتظر «اللحظة المناسبة» التي لا تأتي أبدا!
في العشرينات يعتقد الشباب أن أمامه العمر كله، فيتبعون السيناريو المكتوب لهم سلفا، دراسة اختارها الأهل، ووظيفة يفرضها المجتمع، وزواج من العائلة المناسبة، وعلى قول آخر، من مواخيذنا، وكأن أولئك الشباب ممثلون في مسرحية كتبها آخرون، وفي الثلاثينات ينشغلون بدوامة المسؤوليات، الفواتير والأقساط، حتى ينسوا أن يسألوا أنفسهم «هل هذا ما أريده حقا؟»، ثم تأتي الأربعينات أو الخمسينات بصفعتها القوية، والتساؤلات تنهال «من كان يقود حياتي؟ أين ذهب الشخص الذي حلمت أن أكونه؟ هل فات الأوان؟».
الصدمة تأتي حين يكتشف الإنسان أنه عمل كثيرا على أهداف ليست أهدافه، وحقق نجاحات بلا طعم لأنها لم تكن نجاحاته، وعاش حياة مستعارة وارتدى أقنعة حتى نسي وجهه الحقيقي وأصبح يخاف من خلعها!
قد يكون هذا الاكتشاف مؤلما، لكنه قد يكون أول ما تحتاج لتتحرر من حياة لا تشبهك، حيث إن هذا الاكتشاف يضع الإنسان أمام خيارين، فإما أن يستمر في النوم بعينين مفتوحتين، أو أن يمسك مقود رحلته، أخيرا، حتى لو كان الطريق المتبقي أقصر مما تمنى!
المشكلة أن البعض يختار البقاء على وضع الـ«Autopilot»، ليس جبنا، بل خوفا من الاعتراف بأن السنوات مضت دون قيادة واعية، ونعم، ذلك الاعتراف موجع، لكن الاستمرار في الإنكار أشد إيلاما، لأنه يعني الوصول لنهاية الرحلة دون زيارة محطة واحدة من المحطات التي كنا نتمنى الوصول إليها!
الحقيقة المرة أن الـ«Autopilot» مريح أحيانا، إذ إنه لا يتطلب جهدا ولا قرارات صعبة، ويأخذ صاحبه في طريق ممهد رسمه الآخرون، لكنه لا يعرف الأحلام الشخصية، لا يفهم الشغف الداخلي، لا يسمع صوت القلب الذي يصرخ «هذا ليس طريقي»!
إنني اليوم لست أدعوك للتمرد الأعمى، بل لسؤال النفس بصدق «من يقود رحلتي؟ هل هذا طريقي أم طريق رُسم لي؟»، وإذا كان الجواب مؤلما، فالخيارات واضحة، البقاء راكبا مرتاحا، أو مد اليد للمقود، لكن الصراحة تقتضي أن أسر إليك بأن القيادة متعبة وتتطلب انتباها مستمرا، كما تنتظرك قرارات صعبة ومسؤولية عن كل منعطف، لكن قيادة رحلتك تمنحك شيئا لا يمنحه الطيار الآلي... الشعور بالحياة الحقيقية، بأنك تعيش حياتك لا حياة أحد آخر!
الحياة أقصر مما نظن، والوقت لا ينتظر أحدا، فإما أن تختار الوجهة بوعي، أو سيختارها الخوف والراحة وتوقعات الآخرين، والخيار متاح دائما مع كل شروق، ولربما آن الأوان للاستيقاظ من الغفوة، لإمساك المقود حتى لو ارتجفت اليدان، وحتى لو كان الطريق أصعب من المتوقع، فعلى الأقل سيكون هناك يقين بأن القيادة حقيقية، وأن كل محطة كانت باختيار واع... وهذا وحده يستحق العناء!
واقرأ أيضًا:
ألف ميل.. و10 آلاف خطوة! / المتحف التعليمي.. للأخطاء!