إغلاق
 

Bookmark and Share

استحالة الممكن وحتمية المستحيل ::

الكاتب: أ. د يحيى الرخاوي
نشرت على الموقع بتاريخ: 24/08/2006

 

تعتعة سياسية:استحالة الممكن وحتمية المستحيل

المسألة أنني شاركت في مرارة الحزن الجاري, لكنني خشيت احتمال أن نتوقف عنده، وامتلأت بتحرك الغضب العارم فخفت أن نكتفي به، كما عشت تعرية الحكام، وحراك الناس، ودموع الأطفال على جثث الأطفال، وصرخات اللوعة على تشرد الأسر، فتساءلت: هل هذا هو كل المطلوب؟ جاءت الإجابة بالنفي على كل ذلك. فذهبت إلى الجانب الآخر، وتصورت أننا نحتاج إلى فرحة تتفجر من الحزن، وإلى هدوء فاعل مخترق مثابر يمتد من الغضب، وإلى تاريخ نصنعه "هنا والآن" يكون مبررا للانتماء لتاريخنا الحقيقي والمزعوم.

حين غمرني الحزن مرا علقما، خطر ببالي أن ألغى حـفلا يقيمه مرضاي وأبنائي وبناتي تلاميذا ورحِـما- في أغسطس من كل عام، ألغيه أسوة بإلغاء مهرجان الفنون الشعبية في الإسماعيلية مثلا، لكنني عدلت. خفت أن يصل مرضاي عكس ما نمارسه معا طول العام، نحن نمارس معا ما نتصور أننا نحمد به ربنا.
 
أنْ "أحْيانَا بعد أن أماتنا وإليه النشور"، تذكرت أن لبنان هو البلد العربي الوحيد كما أعرفه منذ زرته طالبا كشّافا في 1954- الذي يعرف كيف "يعيش" بكل صعوباته، وفرقه، واختلافاته، ورقصه، وغنائه، ونشره، وتجارته، وحروبه الأهلية والوطنية، وحرياته، وفرقه، ثم انتبهت إلى أنه البلد العربي الأول الذي يعرف أيضا كيف يموت أبناؤه بدءا بهادي حسن نصر الله- ليحرر أرضه، تذكرت ما أكرره مع مرضاي: "إن الذي يعرف كيف يعيش، هو الذي يعرف لماذا وكيف ولمن يموت"، عدلت عن الإلغاء، وشاركت مرضاي الحفل.

يعلمنا الخيام أن نشرب كأس الحياة حتى نتجرع كأس الموت بشجاعة، ينصحنا أن نحيا بصدق: "ما شدَا طيرٌ بتيجان الرُّبَى، فإذا ساقي المنايا أوجَبَا، شربةً غصَّت ومرّتْ مطْعما، فاحْسُ جلْـدًا خمرةَ الموتِ الزؤام". كيف نحسو خمر الموت جلْدا؟ فهمتُها أخيرا وأنا أشاهد تلك الصرامة الرائعة، والتصميم المُشرق، التي يرفع بهما شباب لبنان ورجاله ونساءه جثث وأشلاء ذويهم. يا لتلك الآلام التي يتخلق منها بشر حقيقيون. هكذا يتخلق المستحيل من الممكن.

احتمال أن يرجع أي منا "كما كان" قبل الأحداث، هو الذي ينبغي أن نرفضه حتى الاستحالة، إلا إذا كنا نسعى إلى مزيد من المهانة، والمذلة، والسلبية، والغش، والتخلف: لا يمكن أن يعود لون الشجر، ولا طعم العنب، ولا مناهج التعليم، ولا زيف العلم، ولا اغتراب الوعي، كما كانوا قبل ذلك، وإلا.. فنحن نستأهل كل ما يجرى لنا، بما في ذلك أن يشكلونا شرقا أوسطا "توصيل المنازل".

إعلان أن حرب أكتوبر كانت آخر الحروب كان أقبح ما حام حول كامب ديفيد، شروطي شخصيا- لقبول تلك المعاهدة وقد قبلتها فـرِحا بأرضي- كانت أن تُسرح كل جيوشنا، مقابل أن يُعـَد كل الناس فورا ودائما- ليكونوا رجال مقاومة طول العمر طول الدهر، فتكون حرب أكتوبر هي بداية كل الحروب الحقيقية الدائمة، مَنْ أنا حتى أُملي شروطي؟ فأمْلاها حسن نصر الله ورجاله، فصار المستحيل حتما ماثلا رأى العين.

أما ما أوهمونا أنه مستحيل فهو أن نكون شركاء في تكوين عالمنا الكوني الجديد، مع أنه حتم جارى تجهيزه فعلا بالتنوع الخلاق والتواصل الضامّ، هكذا:

§ سوف تسقط كل الحكومات الأصولية والاستهلاكية الترفيهية.

§ سوف تتعملق زيفا وكراهية كل الشركات الحاكمة العملاقة، فتتفجر الكروش والعروش.

§ سوف تختفي السلطات الدينية اللاهوتية التي حالت بين الناس وربهم.

§ سوف يتراجع الإرهاب حين يكتشف الشباب أن ثـَـمَّ َطريقا أكرم وأروع يحسو من كأسه "خمرة الموت الزؤام".

§ سوف يتولد شعرٌ "يعطى للألفاظ معانيها"، لا يحل محل الواقع تحريضا خائبا، أو بديلا متناثرا.

§ سوف يحضر ربنا في وعينا كلنا "هنا والآن"، فيذوب وقود الكراهية والتحريض الذي يملأ مواقع "النت" بتشنجات كل الأموات الذين يحسبون أنفسهم أحياء حين لا يرون الحق إلا فيما يعتقدون.

§ سوف يتواصل البشر من وراء الحكومات والشركات، لتتراكم نبضات الفرح، والحزن، والغضب، والفعل، والمعنى، والكل، واللاشِرك، فنصنع لهم ولنا ومعهم العالم الغربي الجديد، فالعالم الشرقي الجديد، فالعالم الشمالي الجديد، فالعالم الجنوبي الجديد، فيتخلق من كل ذلك: العالم الكوني الحقيقي.

لقد بدأ العد التنازلي فعلا وناس العالم تتواصل مباشرة من خلف ظهورهم بتخليق أمريكا الجنوبية الجديدة، أوربا الحقيقية الجديدة، نقاد ومبدعو الولايات المتحدة الجدد. هذا كله هو ما ينبغي أن نستقبله من معنى ما يفعله نصر الله ورجاله وبلده على الأرض وسط الدم والأشلاء، ولتستمر الحروب بكل لغة في كل مجال، الحروب التي يستحيل أن تكون آخر الحروب ما دام الناس يسعون لإحقاق الحق.

(يا لخجلي وأنا أكتب هذا الكلام جالسا على مكتبي هكذا!! سامحوني) .

*للتواصل:
maganin@maganin.com

واقرأ أيضًا:
الاختيار دائما.......مدفوع الثمن / مغامرات في السليم، صبرك علينا شويه / الآثار النفسية للحروب على الأطفال / السلام حلم الطفولة في الشرق الأوسط / سامعين أفنان بتقول إيه!!! / إذا كان مجنوناً، فاللهم أكثر منهم /وحدة للتدريب على طب الكوارث بالزقازيق /
دور الأخصـائي النفسـي في الأزمـات / الأطباء وإنقاذ مصابي الكوارث / مؤتمر قومي لطب الكوارث! / المؤتمر القومي السابع لطب الكوارث / فريق مركز طب الأزمات مصر بخير / هذا الذي أفعله..المجد للمقاومة / شكرا منظمة الصحة وفي انتظار المزيد /  تحيا كوريا الشمالية: يحيا حزب الله/ اغتيال الحرية: لبنان عروس العرب / رسائل فك الحصار 24 /7 /2006 / قانا...مذبحة إسرائيلية جديدة  / الإعلام الشعبي 30/7/2006 / سبقنا شعبولا، ولكن سوف نبدأ  / إعترافاتي الشخصية: لماذا هم قصار القامة؟  / قانا وما بعدها بيروت يصل ويسلم / لبنان لماذا؟ وفلسطين والعراق لا؟  / رسائل فك الحصار دمج فكرتين / ساخن من لبنان: المسار التصاعدي للمعنويات / هكذا لبنان يمنحنا نصرًا ... لا نستحقُهُ!  / سيكولوجية الاكسترا أيضاً حرب لبنان حلاً / وجع المخاض 2/8/2006  / ساخن من لبنان: دفقة أمل (4)  / أدنى من النمل الأبيض!!! / يا سلام على لبنان / وحملوها.... فطارت في الهوا الإبل

الدستور  9/8/2006   



الكاتب: أ. د يحيى الرخاوي
نشرت على الموقع بتاريخ: 24/08/2006