الساعة الآن 3:17 فجراً، وأنا أكتب هذه الكلمات بينما ينام العالم من حولي، أو هكذا يُفترض!
الحقيقة أن هناك عالماً موازياً يستيقظ في هذا الوقت، عالم له قوانينه وأعضاؤه المخلصون الذين يلتقون دون موعد، تجمعهم رابطة غريبة اسمها.. الأرق!
في هذه الساعة تصبح المدينة مختلفة، الشوارع الصاخبة نهاراً تتحول لممرات صامتة يقطعها صوت سيارة عابرة أو نباح كلب بعيد، والنوافذ المضاءة قليلة، كأنها نجوم في سماء من الأسمنت، خلف كل نافذة قصة، بطلها إنسان آخر في نادي الساهرين غير الرسمي!
من هم هؤلاء الأصدقاء المجهولون؟ أم تهدهد رضيعها للمرة العاشرة، تتمنى لو ينام قليلاً، وطالب يصارع كتبه قبل الامتحان ويشرب قهوته الخامسة عالماً أنها لن تنفع، وموظف عائد من نوبة ليلية يأكل بهدوء كي لا يوقظ أسرته، وكاتب يحدق في شاشته الفارغة منتظراً إلهاماً عنيداً، و«حجية» تصلي لأولادها المسافرين ثم تحاول النوم دون جدوى!
الغريب في الثالثة فجراً أنها تكشف حقيقة بسيطة لكنها مؤثرة، حقيقة أننا لسنا وحدنا في أرقنا كما نظن، فهنالك دائماً من يشاركنا هذه اللحظات الصامتة، كأن الليل يجمع القلقين والحالمين في شبكة خفية من التضامن الصامت، ففي هذه الساعة تسقط الأقنعة الاجتماعية، ولا يضطر أحدهم للتظاهر بأنه بخير، أو يبتسم ابتسامة مصطنعة، هاهنا يواجه الجميع نفسه بصدق قاسٍ، يواجه أفكاره التي هرب منها طوال النهار، ويراجع مخاوفه التي غطاها ضجيج الحياة، فهي ساعة الحساب الهادئة، أو العاصفة، مع الذات!
سأعترف أنني أحياناً أفتح نافذتي فجرا وأنظر للنوافذ المضاءة في البيوت القريبة فأشعر بطمأنينة غريبة، لست وحيداً، هناك آخرون مثلي، يشربون الشاي نفسه، ويفكرون في الأسئلة ذاتها، ويشعرون بالوحدة التي تصبح أخف عندما ندرك أنها مشتركة!
عندما تشرق الشمس وتستيقظ المدينة، نعود نحن أصدقاء الثالثة فجراً لحياتنا العادية، نرتدي أقنعتنا النهارية، نتحدث عن الطقس، نتظاهر بأننا نمنا جيداً، مدركين أننا سنلتقي مجدداً الليلة المقبلة في موعدنا السري!
هل تعرف ذلك الشعور عندما تمر بشخص وتدرك أنه من أصدقاء الثالثة فجراً؟ شيء في عينيه أو في مشيته المتعبة يخبرك أنه يعرف سر الليل مثلك، تتبادلان نظرة تفاهم صامت، ثم يمضي كل في طريقه، نعم، فأصدقاء الثالثة فجراً ليسوا مجرد أشخاص لا ينامون، بل حراس ليل غير رسميين يحملون همومهم في صمت ويواصلون رغم التعب، وربما في معرفتنا أننا لسنا وحدنا في هذا السهر، نجد عزاءً صغيراً يكفي لمواجهة ليلة أخرى.
والآن تقترب الساعة من الرابعة، وقت محاولة النوم أو ربما كوب آخر من الشاي، في كلتا الحالتين، أعلم أن أصدقائي المجهولين ما زالوا هناك، خلف نوافذهم المضاءة، يشاركونني سهر هذه الليلة... وكل ليلة!
واقرأ أيضًا:
عقدة الخبير المزيف! / حين نُشبه من كنا نهرب منهم!