في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح لدينا جيش هائل من الخبراء في كل المجالات، خبراء في الطب يشخصون الأمراض من خلال منشور مجهول على فيسبوك، خبراء في الاقتصاد يحلون أزمات الدول في تعليق عابر على تويتر، خبراء في التربية ينصحونك كيف تربي أطفالك وهم لم ينجبوا بعد، وخبراء في علم النفس يحللون شخصيتك من صورة نشرتها على إنستغرام، كلنا أصبحنا خبراء، والعجيب أن هذه الخبرة لا تحتاج لسنوات دراسة أو خبرة عملية، بل تكفي قراءة مقال واحد على الإنترنت، أو مشاهدة فيديو على يوتيوب، أو حتى سماع نصف معلومة في جلسة أصدقاء، وفجأة نصبح مؤهلين لإفتاء الناس وإرشادهم في أمور قد تكون معقدة ومصيرية!
هذه الظاهرة لها اسم في علم النفس يُسمى «تأثير دانينغ - كروغر»، وهو يشير إلى ميل الأشخاص الذين يملكون معرفة قليلة في موضوع ما إلى المبالغة في تقدير مستوى معرفتهم به، أي أن الجهل يجعلنا نشعر بثقة مفرطة في معرفتنا، وكلما قلت معرفتنا الحقيقية، ازدادت ثقتنا في قدرتنا على إبداء الرأي والنصح والإرشاد، لكن ما يثير الفضول حقًا هو لماذا نفعل ذلك؟ ولماذا نشعر بالحاجة الماسة لإبداء الرأي في كل شيء، حتى لو كنا لا نعرف عنه شيئًا؟ ولماذا نفضل أن نبدو عارفين بدلًا من أن نعترف بجهلنا؟
الجواب بسيط ومعقد في الوقت نفسه، إذ إننا نخاف من أن نبدو جاهلين أمام الآخرين، نخاف من جملة «لا أعرف»، وكأنها اعتراف بالفشل أو نقص في الذكاء، فنختار أن «نخترع» إجابة بدلًا من أن نعترف بجهلنا، ونفضل أن نبدو أذكياء ولو كان ذلك على حساب الدقة والصدق، هناك أيضًا متعة خفية في الشعور بأننا «خبراء»، متعة أن يستمع إلينا الآخرون، وأن نكون مصدر المعلومات والحكمة، حتى لو كانت معلوماتنا مشكوك فيها، فالأنا تتضخم حين نشعر أن لدينا شيئًا مهمًا نقوله، وأن الناس تنتظر آراءنا وتقدرها!
لكن هذا السلوك له عواقب وخيمة على الصعيدين الشخصي والاجتماعي، فحين ننشر معلومات خاطئة أو نصائح غير مدروسة، فقد نؤثر في قرارات مهمة في حياة الآخرين، وقد نزيد من انتشار الجهل بدلًا من المعرفة، والأسوأ من ذلك أننا نحرم أنفسنا من فرصة التعلم الحقيقي، لأن من يدعي معرفة كل شيء لا يطرح أسئلة، ومن لا يطرح أسئلة لا يتعلم، وهكذا نبقى في دائرة الجهل المقنع بالمعرفة، ونفقد القدرة على النمو والتطور الفكري.
الحل ليس في أن نصمت عن كل شيء ونتحول إلى متفرجين صامتين، بل في أن نتعلم متى نتكلم ومتى نستمع، وأن نميز بين ما نعرفه حقًا وما «نظن» أننا نعرفه، وأن نجد الشجاعة للاعتراف بجهلنا حين نجهل، فلربما كان أجمل ما يمكن أن نقوله أحيانًا هو «لا أعرف، لكنني مستعد للتعلم»، فهذه الجملة تحتوي على تواضع حقيقي وفضول صادق وهما أساس أي معرفة حقيقية.
أما إذا أردت أن تعرف إن كنت تعاني من «عقدة الخبير المزيف»، فاسأل نفسك سؤالًا بسيطًا:
كم مرة قلت «لا أعرف» هذا الأسبوع؟
واقرأ أيضًا:
عندما يصبح العطاء.. استنزافاً! / إدمان الحلول السريعة!