نحب أن نتصور أن كثرة الخيارات نعمة، وأننا كلما تعددت البدائل أمامنا، ازددنا حظا، وأصبحنا أكثر حرية في أن نختار ما نريد، نتباهى بأننا جيل محظوظ يملك خيارات لم يحلم بها أجدادنا، لكن الحقيقة التي تتكشف مع الزمن، وتصفعنا برفق كل يوم، أن وفرة الخيارات لا تجلب الطمأنينة، بل ترفا من نوع آخر، ترف الحيرة، ذلك الترف المرهق الذي يسرق منا نعمة الرضا!
في الماضي، كان الناس يشترون ما يجدونه أمامهم، مطعم واحد في الحي يعرفون طعمه عن ظهر قلب، قناة تلفزيونية وحيدة يجتمع حولها الأهل، وظيفة ترثها من والدك أو تدخلها بتوصية قريب، واليوم أمامك آلاف المطاعم على التطبيقات، مئات القنوات والمنصات، وملايين المسارات المهنية، قد يكون المفترض أن هذا يعطينا حرية أوسع، لكنه في الواقع يسلبنا راحة البال ويمنحنا قلق الاختيار!
كل قرار صار امتحانا مرهقا يستنزف طاقتنا النفسية، فأي هاتف نشتري من بين مئات الموديلات؟ وأي بلد نزوره من بين كل بلدان العالم المتاحة؟ وأي تخصص ندرس؟ وأي شريك حياة نرتبط به وسط بحر من الخيارات على تطبيقات التعارف؟ وما إن نحسم أمرنا، حتى يهمس في داخلنا صوت شيطاني لئيم: «ماذا لو كان الخيار الآخر أفضل؟»، فنعيش في جحيم المقارنات الأبدية!
المأساة أن كثرة الخيارات تجعلنا غير راضين أبدا، مهما اخترنا، لأننا نتعامل مع قراراتنا على أنها مقامرة خطيرة مع المستقبل، لا على أنها خطوات طبيعية في مسار الحياة، فنستهلك وقتنا في المقارنة اللانهائية بين البدائل، ونقرأ مئات المراجعات، ونسأل عشرات الأشخاص، نحلل ونقارن حتى تصاب قدرتنا على التفكير بالشلل، وحين نختار أخيرا، نقضي وقتا أطول في التساؤل عما فاتنا!
الأغرب والأكثر سخرية أن هذه الحيرة ليست حكرا على القرارات المصيرية، بل تتسلل حتى إلى تفاصيلنا اليومية التافهة، فترانا نقف عشر دقائق أمام رف القهوة في السوبرماركت، ونتصفح نتفليكس لساعة دون أن نختار فيلما، ونفتح عشرة مطاعم على التطبيق ثم نطلب من نفس المطعم القديم، وكأننا نستمتع بعذاب الحيرة أكثر من متعة الاختيار!
المشكلة الجذرية أن عقولنا لم تُصمم للتعامل مع هذا الفيض الجنوني من الخيارات، فنحن كائنات تطورت في بيئة بسيطة، كانت تكتفي بخيار أو اثنين على الأكثر، أما اليوم، فنعيش في سوق كوني ضخم بلا نهاية، ننتقل من رف إلى رف، من تطبيق إلى تطبيق، من موقع إلى موقع، ونغرق في بحر الاحتمالات دون أن نصل إلى شاطئ الرضا!
هذه الحيرة المزمنة تتحول إلى استنزاف نفسي حقيقي، لنصاب بما يمكن تسميته بـ«إرهاق القرار»، فلا نستمتع بما نملك لأننا مشغولون بما فاتنا، ولا نستقر على ما اخترناه لأننا نخاف أن نكون أخطأنا، فنعيش في حالة دائمة من الشك والندم المسبق، نطارد شبحا وهميا اسمه «الخيار الأمثل» الذي لا وجود له إلا في خيالنا!
لعل الحل ليس في البحث المحموم عن المزيد من الخيارات، بل في إعادة تدريب أنفسنا على فن القناعة المفقود، على أن نختار بحكمة ثم نمضي بثقة، وأن نمنح قرارنا فرصة حقيقية قبل أن نحكم عليه، وأن نتوقف عن مقارنة واقعنا بخيالنا عما كان يمكن أن يكون، وأن نعيد للبساطة مكانتها المسروقة في حياتنا!
الحكمة تقول إن الحرية الحقيقية لا تعني أن تتكدس أمامك آلاف الأبواب المفتوحة، بل أن تملك الشجاعة لأن تدخل بابا واحدا وتغلقه خلفك دون أن تقضي بقية عمرك تتساءل عما كان خلف الأبواب الأخرى، وأن تثق أن الطريق الذي اخترته سيوصلك إلى مكان ما، حتى لو لم يكن المكان «الأمثل» في مخيلتك، وأن تدرك أن ترف الحيرة ليس نعمة، بل ضريبة باهظة ندفعها لوفرة لم نتعلم كيف نديرها، والذكاء الحقيقي لا يكمن في امتلاك ألف خيار، بل في القدرة على الاختيار مرة واحدة والعيش مع اختيارك بسلام، فالسعادة لا تسكن في متاهة الاحتمالات اللانهائية، بل في القدرة البسيطة على أن نقول: «هذا يكفيني»... بصدق!
واقرأ أيضًا:
عضويتي في «نادي كبار السنّ»..! / إيثار الفقراء.. دروس على قارعة الرصيف!