في شوارع تونس، وبين زحام السيارات وإشارات المرور، حيث الحياة تسير بسرعة لا تسمح لها بأن تلتفت للصغار، اقترب منا طفلان يبيعان الورود، ملامحهما صغيرة بريئة، لكن عيونهما تحمل من التعب ما يجعلهما أقدم من سنهما، كأنهما عاشا أكثر مما يحتمله عمرهما القصير، مدّا إلينا بضاعتهما البسيطة، وردة هنا وأخرى هناك، في محاولة صادقة لانتزاع يوم أقل قسوة من أنياب المدينة.
أخبرناهما بحرج أننا لا نملك نقوداً إلا لواحد منهما، توقعت المعتاد، المألوف، المنطقي، أن يتنافسا، أن يتسابقا، وأن يتشبث كل واحد منهما بحقه في تلك القطعة الصغيرة من الرزق، توقعت أن أرى شريعة البقاء، التي تحكمنا نحن الكبار، تلعب دورها في حسم نزاعهما، لكن ما حدث كان صفعة ناعمة على وجه توقعاتي، حيث التفت أحدهما إلى الآخر، وابتسم ابتسامة صافية، وقال ببساطة مذهلة: «أعطها لصاحبي... هو بحاجة إليها أكثر مني»!
تجمّد الزمن للحظة، أو ربما تجمّدت أنا!
كيف يمكن لطفل فقير، يقف على الرصيف في عز الحر، حافي القدمين أو يكاد، خاوي البطن غالباً، أن يتنازل عن فرصة بيع وحيدة من أجل صديقه؟ من أي نبع يستقي هذا الكرم؟ أي مدرسة علمته أن الصداقة أغلى من دينار ودرهم؟
نحن الذين نملأ بطوننا حتى التخمة، نتصارع على أتفه الأسباب، نحسب كل فلس نعطيه، وكأننا نقتطع من لحمنا الحي، بينما هؤلاء الصغار، الذين لا يملكون إلا أحلاماً مؤجلة ووروداً ذابلة، يعطون دروساً مجانية في الكرم الحقيقي!
نحن نظن بغرورنا المعتاد أن الكرم رفاهية الأغنياء، أن من لا يملك شيئاً لا يستطيع أن يعطي، وننسى أن أعظم الهدايا أحياناً تأتي من أفقر الناس، لأنهم يعطون من الضروري لا من الفائض، فيقتسمون اللقمة الواحدة ولا يبخلون بالنصف، بينما نحن نملك المخازن ونظل نحسب ونعد!
إيثار الفقراء لغز يحير العقل، لأنه يتحدى منطقنا البارد، ويخبرنا أن الإنسان ليس مجرد آلة حاسبة تبحث عن المكسب، بل يمكن أن يكون ملاكاً، حتى وهو يرتدي ثياباً رثة، ويذكرنا أن الكرامة تُقاس بما في القلوب لا بما في الجيوب، وأن الثروة الحقيقية ليست في الأرصدة البنكية، بل في القدرة على العطاء حتى من العدم!
ربما يكمن سر إيثارهم في أنهم يحملون الألم في أجسادهم لا في ذاكرتهم فحسب، يعرفون كيف تتلوى المعدة الخاوية، وكيف يخترق البرد العظام، وكيف يثقل اليأس على الأكتاف، هذه المعرفة الحية تجعلهم يرون أنفسهم في عيون المحتاجين، ويسمعون صدى جوعهم في أنين الجائعين، فيمدون أيديهم للمساعدة بسرعة البرق، كأنهم ينقذون أنفسهم من الغرق، أما نحن المحصنون خلف جدران الرفاهية، فنفقد تدريجياً قدرتنا على الإحساس بالآخرين، ونصاب بتبلد عاطفي، يزداد سوءاً كلما ازددنا ثراء، وننسى معنى الحاجة فننسى معنى العطاء!
هؤلاء الأطفال، ببراءتهم الممزوجة بحكمة فرضتها الحياة عليهم مبكراً، لقنونا درساً لن نجده في كتب الفلسفة، أوقع من خطب المنابر، وأعمق من دورات التنمية البشرية، درساً مفاده أن الإنسان يمكن أن يكون عملاقاً في إنسانيته حتى وهو يقف حافياً على رصيف مهمل، وأن الصغار أحياناً قد يكونون أكبر منا جميعاً!
في ذلك اليوم، اشترينا الوردتين بالطبع، لكن الحقيقة أنني كنت أنا من دفع ثمن درس لا يُقدّر بثمن، درس في الإنسانية النقية، في الصداقة الصادقة، في العطاء الذي لا ينتظر مقابلاً، غادرت المكان، وأنا أحمل وردتين في يدي، وسؤالاً ثقيلاً في قلبي: متى كانت آخر مرة تنازلت فيها عن شيء أحتاجه فعلاً من أجل شخص آخر؟
وفي المساء، وأنا أتأمل الوردتين الذابلتين على طاولتي، أدركت أنهما أجمل باقة رأيتها في حياتي، لأنهما تحملان عطر الإيثار الحقيقي، ذلك العطر النادر، الذي لا يُباع في محلات العطور الفاخرة، بل يُوجد فقط على أرصفة الحياة، حيث يقف الفقراء بأموالهم، الأغنياء... بقلوبهم!
واقرأ أيضًا:
العصبي... أطيبهم جميعاً! / عضويتي في «نادي كبار السنّ»..!