![]() |
الغيرة... هل هي خلق محمود، أم أنها شر كلها؟ أم أن هناك أنواعًا مختلفة من الغيرة؟
حول هذا الموضوع كتب الأستاذ عبد الحليم أبو شقة-يرحمه الله- في موسوعته القيمة عن "تحرير المرأة في عصر الرسالة" (6 أجزاء) البحث التالي مستنداً للأحاديث النبوية الصحيحة:
تقرير الشرع لحق الغيرة السوية
- عن جابر بن عتيك: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يقول: "من الغيرة ما يحب الله، ومنها ما يبغضه الله، فأما التي يحبها الله فالغيرة في الريبة، وأما التي يبغضها الله فالغيرة في غير ريبة. [رواه أبو داود].
قال عياض: الغيرة مشتقة من تغير القلب وهيجان الغضب، بسبب المشاركة فيما به الاختصاص. وأشد ما يكون ذلك بين الزوجين.. وقيل الغيرة في الأصل الحمية والأنفة، وهو تفسير "يلازم التغير" فيرجع إلى الغضب.
وهذا التعريف يفيد أن الغيرة المحمودة المشروعة من جانب الرجل؛ هي ما كانت بسبب مشاركة الرجال الأجانب له فيما به اختصاصه من زوجه، وعلى ذلك ليست رؤية الأجانب لوجهها وكفيها، أو محادثتها بالمعروف (مما لا تنفك عنه الحياة الاجتماعية) مما به اختصاص الزوج.
أنواع الغيرة
الغيرة المحمودة: وهي ما كانت في ريبة، ومثالها: عن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله، لو وجدت مع أهلي رجلاً لم أمسه حتى آتي بأربعة شهداء؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. قال: كلا والذي بعثك بالحق، إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسمعوا إلى ما يقول سيدكم، إنه لغيور، وأنا أغير منه والله أغير مني. (وفي رواية للبخاري: ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين).
الغيرة هنا في تصور لحال ريبة؛ لذا كانت محمودة، لكن المشكل كان ما ترتب عليها من فعل توقعه السائل من نفسه، لكنها زادت عن الحد إذ دفعت إلى قول ما لا ينبغي أن يقال، وربما تدفع رجلاً آخر إلى فعل ما لا ينبغي وهو قتل الزاني، بينما الشارع وضع ضوابط لا تبيح قتل الزاني دون أربعة شهود، فهناك الملاعنة سبيلاً لفض العلاقة الزوجية مع خيانة لم يأت معها الزوج بأربعة شهداء، ولا ينفرد الزوج بالقتل حفظاً للدماء من أن تضيع بسوء فهم أو لبس.
وكذلك يحمد كل زوج وزوجة إذا كانت منهما غيرة في ريبة وقعت من الطرف الآخر؛ ليتم تقويم السلوك واجتناب مواضع الريب قبل أن يؤدي لما لا تحمد عقباه.
الغيرة المذمومة:
وهي ما كانت في غير ريبة، ومثالها: عن محمد بن قيس بن مخرمة بن المطلب أنه قال يومًا: ألا أحدثكم عني وعن أمي. قال: فظننا أنه يريد أمه التي ولدته. قال: قالت عائشة: ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: بلى. قال: قالت: لما كانت ليلتي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم عندي، انقلب فوضع رداءه وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه فاضطجع، فلم يلبث إلا ريثما ظن أن قد رقدت، فأخذ رداءه رويدًا وانتعل رويدًا، وفتح الباب فخرج ثم أجافه([i]) رويدًا، فجعلت درعي في رأسي واختمرت وتقنعت إزاري، ثم انطلقت على إثره حتى جاء البقيع، فقام فأطال القيام ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر([ii]) فأحضرت فسبقته فدخلت. فليس إلا أن اضطجعت فدخل فقال: ما لك يا عائش حَشْيا([iii]) رابية([iv])؟ قلت: لا شيء. قال: لتخبريني أو لَيُخْبِرَنِّي اللطيف الخبير.
قلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، فأخبرته. قال: فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟ قلت: نعم. فَلَهَدَني([v]) في صدري لَهْدَة أوجعتني. ثم قال: أظننت أن يحيف([vi]) الله عليك ورسوله! قالت: مهما يكتم الناس يعلمه الله، نعم. قال: فإن جبريل أتاني حين رأيت فناداني فأخفاه منك، فأجبته فأخفيته منك، ولم يكن يدخل عليك وقد وضعت ثيابك، وظننت أن قد رقدت فكرهت أن أوقظك، وخشيت أن تستوحشي. فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم. قالت قلت: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون. [رواه مسلم].
- عن أبي سعيد الخدري قال: كان فتى منا حديث عهد بعرس، قال: فخرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بأنصاف النهار يرجع إلى أهله، فاستأذن يومًا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك قريظة، فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع، فإذا امرأته بين البابين قائمة، فأهوى إليها الرمح ليطعنها به، وأصابته غيرة، قالت له: اكفف عليك رمحك، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني، فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح.. [رواه مسلم].
فالغيرة لا تعني سوء الظن بالصاحب.
الغيرة الزائدة:
أي غيرة تزيد قدرًا ما عن حد الاعتدال، وهذه ينبغي أن يترفق في معالجة آثارها، وينبغي أيضًا اجتناب مثيراتها، هذا من جانب الصاحب المعافى. أما الطرف المبتلى فعليه أن يبذل جهده في ضبط مشاعره قدر الإمكان، كما عليه ضبط سلوكه حتى لا يصدر منه ما يخالف الشرع. وهذه بعض الأمثلة لأصحاب الغيرة الزائدة:
- عن ابن عمر قال: كانت امرأة لعمر تشهد صلاة الصبح والعشاء في الجماعة في المسجد. فقيل لها: لِمَ تخرجين وقد تعلمين أن عمر يكره ذلك ويغار؟ قالت: وما يمنعه أن ينهاني: قال: يمنعه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله". [رواه البخاري]
هنا نلمس ضبط عمر لغيرته الزائدة فلم يمنع زوجته من الذهاب للمسجد التزامًا منه بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله".
- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: رأيتني دخلت الجنة.. ورأيت قصرًا بفنائه جارية. (وفي رواية: فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر) فقلت: لمن هذا؟ قالوا: لعمر، فأردت أن أدخله فأنظر إليه، فذكرت غيرتك (فوليت مدبرًا)، فقال عمر: بأبي وأمي يا رسول الله، أعليك أغار؟! [رواه البخاري ومسلم].
الغيرة هنا لا علاقة لها بزوجة عمر، ولكن للحديث دلالة أشار إليها ابن بطال بقوله: يؤخذ من الحديث أن من علم من صاحبه خلقًا لا ينبغي أن يتعرض لما ينافره، فالحديث يبين كيف راعى رسول الله صلى الله عليه وسلم غيرة عمر الزائدة فولى مدبرًا. كما يبين كيف تغلب إجلال عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم على غيرته الزائدة. وهكذا ينبغي أن يتعلم الزوجان من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يتعرضان قدر الإمكان لما يثير الغيرة الزائدة – إن وجدت – عند الطرف الآخر.
- عن أسماء بنت أبي بكر قالت:.. وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي، وهي مني على ثلثي فرسخ. فجئت يومًا والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار، فدعاني ثم قال: إخ إخ. ليحملني خلفه، فاستحيين أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته، وكان أغير الناس. فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنى قد استحييت فمضى، فجئت الزبير فقلت: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسي النوى ومعه نفر من أصحابه، فأناخ لأركب فاستحييت منه وعرفت غيرتكن فقال: والله لحملك النوى كان أشد علي من ركوبك معه. [رواه البخاري ومسلم].
نلحظ هنا كيف تحملت أسماء المشقة مراعاة لغيرة زوجها الزائدة.
كما نلحظ أن مروءة الزبير كادت أن تتغلب على غيرته الزائدة، وذلك عندما قال: "والله لحملك النوى على رأسك كان أشد علي من ركوبك معه" ويوضح هذا المعنى الحافظ ابن حجر بقوله: أي كان ركوبها أخف مما تحقق من تبذلها بحمل النوى على رأسها من مكان بعيد؛ لأنه قد يتوهم خسة النفس ودناءة الهمة.. ولكن كان السبب الحامل على الصبر على ذلك، شغل زوجها بالجهاد وغيره.. فكانوا لا يتفرغون للقيام بأمور البيت بأن يتعاطوا ذلك بأنفسهم، ولضيق ما بأيديهم عن استخدام من يقوم بذلك عنهم.
كما نلحظ كيف تحملت أسماء المشقة مراعاة لغيرة زوجها.
معاني المفردات:
([i]) أجافه: رده بلطف
([ii]) فأحضر: عدا فوق الهرولة
([iii]) حشيا: من الحشا وهو التهيج الذي يعرض للمسرع في مشيه
([iv]) رابية: التي أخذها الربو وهو التهيج وتواتر النفس
([v]) فلهدني: دفعني
([vi]) يحيف: يظلم
ويتبع >>>>: الغيرة.. ليست شرًّا كلها2
واقرأ أيضا:
هل الغواية من النساء فقط؟ / لماذا تلجأ النساء للسحر؟