لم أتردد يوما في صياغة فكرة تخطر على بالي، رُغم أنني لستُ من هؤلاء الذين يقعون في غرام أول أفكارهم، بل أبحث بمنهجية احترافية عما يثبت أفكاري، وإن وجدتُها لا أصل لها أو تبينتُ أنها غير سليمة تماما، تتولى محرقتي إنهاء الهُراء فوراً.
مع ذلك لا تأخذوا كلامي هذا على محمل علمي، بل هو تجارب حياتية مررتُ بها مع مُدراء عمل مصابين باضطراب تشتت انتباه وفرط الحركة.
بحكم عملي الحر، يأتيني أحدهم بمشروع تخصيب يورانيوم يريد إنجازه في ثلاثة أيام كحد أقصى أو أن حياته بالكامل سوف تنتهي قبل يوم الثلاثاء إن لم يتم تسليم العمل!
بعد فصال طويل ومناهدة مرهقة، وحوار منطقي غير مُجدي، أقبل على مضض بإنهاء المشروع في موعد أقصاه أسبوع، وأُدرك في ذهني جيدا أن هذا الأسبوع سيكون سبع أيام عجاف من العمل المضنى الدؤوب الذي سأصاب فيه بتشتت انتباه كامل! وفقدان لإحساسي بجسدي الذي يشير لي أنه حان وقت الراحة والنوم وإلا سأُفعٌل آلية الباراسيمباثاتك.
أقول لأحدهم هذا: ما هي رؤيته للمشروع، أكتشف أنه لا يمتلك أي رؤية، أو لا يجيد التعبير عنها مطلقا.
أقول: سأفعل كذا وكذا
يقول: جميل
أتفق معه في المقابل المادي، لا يمتلك رؤية أيضا.
ولكن لا تقلق "مرضية إن شاء الله"
يقول: المهم قبل ثلاثة أيام، أذكره أننا اتفقنا على أسبوع
بس حاول قبل كده
أخبره أنه مستحيل وأننا بالفعل تخطينا هذه النقطة.
بس حاول قبل كده
تخطينا هذا الموضوع قلت لك
حاول بس!
ماشي، أقولها علنا نتخطى هذا الأمر مرة أخرى.
لا يكف عن العبث بهاتفه المتداعي هذا الأبله والذي يدير فريق عمل احترافي سيذهب بهم إلى قاع الجحيم حتما إن لم يرفع كبسولتين أتوموكستين من فئة 40مج كل صباح، قابلت مثله الكثير يحملون نفس النمط بشكل عجيب، يدعو للحيرة فعلا.
أنجزتُ المشروع في خمسة أيام بمتوسط ساعات عمل خمسة عشر ساعة يوميا أو يزيد.
أتواصل معه.. أسلمه المشروع..
يعود لتعديلات.
نبدأ بشجار..
لقد سألتك عن هذا وقلت لي أنه غير مهم!
يقول لي "أنا آسف"
أبتسم.. تأخذ التعديلات يومين آخرين بمتوسط ساعات عمل ثمان ساعات يوميا.
أتواصل معه.. أسلمه المشروع.. يعود لتعديلات.. يعتذر.. أبتسم.. متوسط ساعات العمل تتقلص إلى ساعتين يوميا.
يعتذر.. أبتسم.. يمر شهر.. ربما أكثر!
لم تنته حياته هذا الوغد بعد ثلاثة أيام كما أخبرني.
أتواصل معه لا يرد، لم يعد يعتذر، أنسى أمره تماما فأنا المُخطئ، لم أتلقى مقابل عملي مقدما.
تمر بضعة أيام، يتواصل معي هذا التائه كما لو كان ترك رأسه في مكان ما ونسي.
عشرون مكالمة فائتة وثلاثون رسالة واتس آب، جرس باب بيتي يصرخ بجنون، أصحو فزعا أقسم في ذاتي أني سأهشم رأس أيا من يكن على الباب ويدق بهذه الطريقة.
رسول يقول لي تواصل مع فلان للضرورة القصوى.
ألفاظ قبيحة تتواثب في رأسي، أكتم غيظي.
أُمسك هاتفي.
أشعُر أن حياته تنتهي حالا بالفعل، أرسل له المشروع، يراسلني بعدها..
كيف فعلت ذلك؟، هذا مشروع مؤسسي؟، من ساعدك فيه؟.. بلا بلا بلا.
ثم يختفي، أتواصل معه لا يجيب!
أتساءل هل حياته انتهت فعلا؟!
تمر الأحقاب
ربما يحتاجني في مشروع جديد أو أنها الصدفة فقط!
أين مقابل عملي؟
يرد ببرود شديد جدا أنه نسيَ الأمر فقط!
هذا الوغد لن يَسلم مني هذه المرة إنه لعلؤٌ من الحجم الكبير جدا.
أتلقى منه حساب المشروع القديم غير المرضي تماما! وكذلك الجديد كاملا مقدما ويكون مُرضيا لي.
يوافق فورا.. يحول المال. ثم يختفي، أتواصل معه لا يجيب!
تمر أحقاب أخرى، عشرون مكالمة هاتفية وثلاثون رسالة واتساب، لغى المشروع ويريد حقه.
أحاول أن أتعولق عليه يوما مثلا تأديبا له.
لكن مرت أحقاب أخرى حتى احتاجَ مشروعا جديدا.
عشرون مكالمة فائتة! بينما لا يكف عن العبث بهاتفه الذي شاشته دوما شبه مهشمة وعلى وشك انهيار مفاجئ.
يشكو لي كم تدهور عمله، وكم تعرض لخسائر فادحة، ومشروع اليورانيوم الجديد سيعيد حياته مبهجة مرة أخرى لكن هذا في حالة خروجه خلال يومين فقط.
أقع في الفخ من جديد، وإن كنتُ أُخيلُني ثعلباً، لكن هناك مثلا لا أعرف من أي موطن أزهَر يقول "حتى الثعلب يقع في الشَرَك بكلتا يديه" ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يعود لتعديلات.. نتشاجر.. يعتذر.. أبتسم.. تمر أحقاب أخرى!
مثل هؤلاء لابد من إخضاعهم للعلاج فورا، وأنا أقترح أن يأخذوا الأتوموكستين لبوس، صدقوني أيها الأطباء لن يجدي معهم سوى اللبوس، قولوا أقماع سيوافقون فوراً.
لذلك أنا أنادي هنا على مجانين، رجاء طارئ لابد من إخضاع المدراء لمقاييس ADHD وفي حالة كانت مرتفعة، يُرفضون فورا بلا إبداء أسباب، أو مسوغات. وأناشد القائمين على المعايير التشخيصية أن يضيفوا معياراً جديداً بجانب الاندفاعية وهو العلوئية بالهمز. وهي مفردة شعبية مصرية خالصة لا أدري كيف سيتم ترجمتها، لكنها توفر الكثير من الجهد لحسم التشخيص.
واقرأ أيضًا:
اكتئاب الأفراح أو اكتئاب المناسبات الاجتماعية / رفيف وأمثالها: في تأبين د. رفيف الصباغ