منذ طفولتي وأنا أرى عمي الأكبر الحاج عباس، وإلى جانبه رجل هادئ الطباع قليل الكلام نعرفه جميعًا باسم «حجي إبراهيم»، حضوره الدائم جعلني مقتنعًا لسنواتٍ طويلة بأنه عمي أيضا، وكان ذلك بالنسبة لي كطفلٍ أمرًا محسومًا وبديهيًا، رغم أن والدي اسمه إبراهيم أيضا، فلم يخطر ببالي أن أسأل يومًا عن طبيعة العلاقة بين حجي ابراهيم وعمي عباس، لأن الحياة كانت تبدو طبيعيةً جدًا وهما معًا!
لكنني مع مرور السنين اكتشفت بهدوءٍ أن حجي إبراهيم ليس عمي، ولا تربطنا به قرابة عائلية على الإطلاق، وكانت المفاجأة بالنسبة لي أنه مجرد صديق عمي منذ سنوات الشباب الأولى، إلا أن هذه الصداقة كانت من العمق والثبات والدفء ما جعلني أظن طوال تلك السنوات أنها رابطة دم حقيقية!
ما يُدهشني اليوم وأنا أقترب من الخمسين، وأستعيد صورتهما معًا في ذاكرتي، هو أن هذه العلاقة صمدت لأكثر من سبعين عامًا من الصداقة المتصلة، دون أن تبهت أو تضعف، أو تتلاشى بفعل الزمن أو تقلّبات الحياة الكثيرة. وأتساءل كثيرًا بيني وبين نفسي: ما السر الذي يجعل علاقة كهذه تصمد في وجه كل شيء؟ وما الذي يجعلها قادرةً على البقاء هادئةً وعميقة، دون أن يصيبها التعب أو الملل أو التغير؟
جزءٌ من الإجابة ربما يكمن في بساطة العلاقة، فلم يكن بينهما أي تعقيد أو شروط مسبقة، بل مجرد علاقة نقية، واضحة، عفوية، لا تحتاج إلى شرح أو تفسير، علاقةٌ يفهمها كل من يراها بسهولةٍ، لأنها تنساب بينهما كالماء، وتتدفق دون جهد أو تصنّع.
الأمر اللافت، والذي ربما كان أحد أهم أسباب هذه الصداقة الاستثنائية، هو اختلافهما الكبير في الشخصية والاهتمامات، فقد كان عمي عباس دائمًا رجلًا اجتماعيًا متحدثًا، له رأيه الواضح في السياسة وفي كل القضايا العامة، يناقش ويُجادل، ويُعبّر بصراحةٍ وحماسةٍ عن مواقفه، أما حجي إبراهيم، فكان على النقيض تمامًا، رجلًا هادئًا، قليل الكلام، لا نكاد نسمع له رأيًا في السياسة أو الشأن العام، وكان يفضل دائمًا الاستماع على الكلام، ويكتفي بابتسامةٍ دافئةٍ وصامتةٍ تعبّر عن موقفه دون كلمات كثيرة، ولم يكن اختلافهما هذا أبدًا عائقًا أو سببًا للخلاف، بل كان على العكس سببًا في توازن العلاقة وتكاملها وجمالها!
كذلك كان الوفاء بينهما شيئًا نادرًا جدًا، وفاء بسيط، هادئ، يظهر في التفاصيل اليومية الصغيرة قبل الكبيرة، فكان كل واحدٍ منهما يعرف أن الآخر موجودٌ لأجله حين يحتاج إليه، دون سؤالٍ ودون انتظار مقابل، ثقةٌ صادقةٌ ونادرةٌ هي التي منحت صداقتهما تلك القدرة على البقاء والتجدّد.
لهذه الأسباب تحديدًا، أردتُ أن أكتب هذا المقال اليوم، لأوثّق هذه الصداقة الإنسانية الجميلة، التي تكاد تكون نادرةً جدًا في زمننا هذا، أكتبُ للاحتفاء بوجودها، وللإشارة إلى أنّ هذه العلاقات الصادقة العميقة هي ما يمنح حياتنا معنىً أعمق، ودفئًا لا يمكن استبداله بأي شيء آخر، ولعمي عباس وحجي إبراهيم أقول إن صداقتكما تذكّرني دائمًا بأن الصديق الحقيقي هو كنز نادرٌ في حياتنا، وأن العثور على شخص يفهمنا، ويتقبّلنا كما نحن، ويقف إلى جانبنا دون شروط، هو إحدى أثمن النعم التي قد نحصل عليها، وأن صديقا حقيقيا واحدا.. قد يغنيك عن العالم بأسره!
واقرأ أيضًا:
عندما جعلني الصمت.. متحدثاً بارعاً! / لو كانت حياتك كتاباً.. هل تقرأه؟